إلياس سحّاب
لن أدخل في حوار فكري أو فلسفي مع الافكار التي اطلقها بابا الفاتيكان في محاضرته الأخيرة، فأثارت عاصفة من ردود الفعل الفكرية والسياسية والجماهيرية، لم تهدأ حتى كتابة هذه السطور. لن أدخل في الحوار الفكري أو الفلسفي أو الديني لسببين:
* أولا، لأني لست ضليعا في علوم الدين المسيحي أو الاسلامي، بما يتيح لي الخوض في هذه المسائل، فاطلاعي على بعض جوانب هذه العلوم، لا يتجاوز حدود الثقافة العامة.
* ثانيا: (وهذا هو السبب الأهم) لأن المردود السياسي (وليس الفكري) لكلام بابا الفاتيكان كان الأكثر انتشارا وإثارة لردود الفعل، وهو بالتالي (أي المردود السياسي) الأجدر بالنقاش.
مرة أخرى، ومن غير الدخول الى الاطار العام لمحاضرة البابا، وتفاصيل الأفكار الأساسية التي وردت فيها، فإن المقطع الذي أثار ردود الفعل، هو ذلك الذي خص فيه الدين الاسلامي، بين سائر الأديان، بأنه يدعو الى العنف أو يدفع اليه.
ولو توقفنا اولا عند التوقيت الذي أطلق فيه البابا هذه الفكرة، فلا شك بأنه على إلمام تام بأن الاتجاه الى ربط العنف السياسي بالدين الاسلامي، دون سائر الأديان، هو اتجاه سياسي بامتياز، اطلقته الإدارة الأمريكية، منذ ان أشرفت عمليا على استغلال سياسي مباشر للنزعة الجهادية الإسلامية في مواجهة النفوذ السوفييتي في افغانستان، فصاغت معادلة تحريك ldquo;الجهاد الاسلاميrdquo; ضد الشيوعية ldquo;الملحدةrdquo;. ولسنا بحاجة الى نقاش مطول أو معمق لسوق الحجج على أن لا فكرة الجهاد كانت في صلب اهتمام الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت، ولا كان الالحاد الشيوعي يثير قلقها الفكري. كل ما هنالك أنها اهتدت الى صيغة تضغط بها (بدماء الآخرين وحماستهم وتضحياتهم) على النفوذ السوفييتي لإخراجه من افغانستان.
لقد أعمت الهزيمة الروسية وقتها عيون وعقول المخططين الأمريكيين عن خطورة الاستغلال السياسي المصلحي لتلك المواريث الحساسة في ثقافة الشعوب وأعماق وجدانها الديني المكون عبر القرون والمتجذر عميقا في النفوس والأفئدة.
هذه الخطورة بالذات، هي التي تجسدت فجأة أمام الإدارة الأمريكية، في عهد المحافظين الجدد بالذات، ظاهرة حملت اسم ldquo;تنظيم القاعدةrdquo;.
لا داعي لمتابعة التفاصيل المعروفة بعد ذلك، لكننا نكتفي بأن ذلك الخلط البشع بين الدين والعنف، في المنعطف التاريخي الدولي الذي تعيشه البشرية منذ العقد الاخير من القرن المنصرم، وحتى يومنا هذا، هو بضاعة أمريكية خالصة، وصلت قبل أسابيع قليلة، الى ذروة غير مسبوقة من الخطورة من جهة، وعدم ادراك الادارة الأمريكية لحساسيتها من جهة ثانية، الى حد وصول الشعارات الدعائية التي تحتاجها الادارة الأمريكية وقودا لنارها الامبراطورية التي لا تهدأ ولا تشبع، الى شعار ldquo;الاسلام الفاشيrdquo;.
في هذا التوقيت، وهذا السياق، من الصعب جدا الاعتقاد بأن بابا الفاتيكان قد ضمن محاضرته تلك الفكرة التي ربطت بين العنف والدين الاسلامي (بشكل خاص)، من دون ادراك لحقيقة ان مثل هذا الكلام، في مثل هذا التوقيت، يصب حكما في خانة الشطط الفظيع الذي تمارسه الادارة الأمريكية منذ سنوات، في الاستخفاف الفظيع والمتهور بتسخير مثل هذه المواضيع الدينية البالغة الحساسية، وقودا في محرك المصالح السياسية والاقتصادية الدنيئة والبشعة.
فإذا ارتفعنا فوق كل هذه التفاصيل، وحاولنا اعادة الامور الى سياق التأمل الفكري الهادئ والرزين والعاقل والحكيم، فإن شواهد التاريخ السياسي للبشرية منذ ظهور الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، تؤكد لنا ان كلا من هذه الأديان، قد تحول، وربما أكثر من مرة في مراحل تطوره، على يد نفر متعصب منغلق وضيق الأفق من أتباعه، الى مصدر فكري وايماني لتبرير العنف السياسي وممارسته، بمناسبة ومن دون مناسبة. لكن ذلك كان دائما شططا بشريا في تفسير هذا الدين أو ذاك، ولم يكن في صلب فلسفة الدين، كذروة فلسفية رفيعة، تحدد (بتفاصيل تختلف بين دين وآخر) علاقة الانسان والبشرية بالإله الواحد الأحد.
لقد لفتت الإدارة الأمريكية نظرنا منذ عقد ونصف من الزمن على الاقل من الممارسات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومن الطروحات الفكرية، التي انطلقت من شعار صراع الحضارات والأديان، حتى وصلت الى شعار الاسلام الفاشي، كما لفتت نظرنا الفكرة الاخيرة التي اطلقها بابا الفاتيكان، في إلقاء الضوء (ولو عبر استشهاد بإمبراطور بيزنطي) بين العنف والدين الاسلامي بالذات، لفتت الاثنتان نظرنا الى أن البشرية تقف في مطلع القرن الحادي والعشرين امام مصيرين:
* الأول هو المضي قدما، وبلا اي تقدير للعواقب الوخيمة، في تحويل طاقة الايمان الدينية العميقة لدى المؤمنين بالأديان السماوية الثلاثة بالذات، الى وقود رخيص في حروب المطامع السياسية والاقتصادية البشرية الرخيصة، بلا أي تعقل أو حكمة أو تقدير الى ان هذا المصير من شأنه ان يدمر الكرة الارضية كلها والمصير البشري برمته، وربما يعجل في موعد يوم القيامة الذي تتحدث عنه الأديان كلها.
* الثاني هو ارتفاع سلطة العقلاء والحكماء في صفوف كل من هذه الأديان، فوق سلطة جنون السيطرة السياسية الذي وصل الى درجة يعمي معها البصائر والعقول، فتسود نزعة تركيز الاضواء الكاشفة كلها، على المساحات المشتركة العظمى بين الأديان، كطريق متعدد المسالك لتنظيم علاقة البشر بخالقهم الواحد الأوحد، مهما تعددت اساليب التعبير عن الايمان به.
ولعلنا في هذه الايام بالذات، قد وصلنا الى مفترق الطرق الحاسم، الذي يحتم على جميع العقلاء والحكماء التحول من التفكر الى العمل، والعمل السريع المباشر.
التعليقات