سـجعان قـزي
مرة أخرى، يُستخدم الوجودُ الفلسطيني قاعدة لشن حرب على لبنان: دولة وكياناً ونظاماً وصيغة، إنما هذه المرة بثلاثة فوارق: الأول هو أن الجيش اللبناني، لا الأحزاب المسيحية، واجه الحرب الجديدة رغم الخلاف القائم حول شرعية المؤسسات الدستورية الرئيسية (رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب). الثاني هو ان جميع الطوائف اللبنانية المسيحية والإسلامية دعمت الجيش اللبناني في مقاومته رغم الانقسام السياسي الحاد بين فريقي 8 و 14 آذار. والثالث هو أن المنظمات الفلسطينية الرئيسية شجبت مشروع حركة quot;فتح الإسلامquot; رغم الانشقاق القوي بين حركتي quot;فتحquot; وquot;حماسquot;.
غير أن موقف الجيش لا يعني عودة الدولة وسقوط الدويلات، وموقف الطوائف اللبنانية لا يجسد وحدة الوطن وسقوط المشاريع الطائفية والمذهبية، وموقف المنظمات الفلسطينية لا يؤكد وحدة القرار الفلسطيني حيال لبنان وسقوط مشاريع التوطين فيه. إن الأحداث لا تزال في بداياتها وقد تتداخل فيها قريباً تطورات إقليمية ودولية تؤثر على مسارها الحالي وتكشف أبعادها وملابسات توقيت انفجارها. وما لم تحدث هذه التطورات الخارجية، ستكون سوريا، في المدى القريب، الرابح الأساسي مما يجرى في مخيم نهر البارد وفي مخيمات أخرى لاحقاً، حتى لو حسم الجيش اللبناني المعركة.
من خلال أحداث مخيم نهر البارد، نجحت سوريا في تسجيل أهداف ماهرة في أكثر من ملعب لبناني وعربي وإقليمي ودولي، أبرزها:
1- خلقت حال عدم استقرار شامل في لبنان أربكت الحكومة اللبنانية وأثارت تساؤلات حول مدى قدرتها على استباق الفتن وحكم البلاد وتوفير الأمن والسلم الأهلي ناهيكم عن السيادة الحقيقية والاستقلال الناجز.
2- حاولت إيجاد تجربة أولية في لبنان موازية لتجربة quot;إمارة غزةquot; تصيب فيها ثلاثة أطراف دفعة واحدة: وحدة القوى الفلسطينية، وحدة الدولة اللبنانية، ووحدة القوى السنية في عاصمتها الأولى: طرابلس.
3- سلّطت الضوء على خطر الإرهاب السني فيما الولايات المتحدة وأوروبا تتداولان في مشروع تعزيز الحالة السنية، على غرار ما هو حاصل في تركيا والأردن. وأدى ظهور الإرهاب الأصولي السني إلى شعور التيارات السنية المعتدلة والوطنية، كتيار المستقبل مثلاً، بأنها في قفص الاتهام لأنها في مراحل سابقة سعت، مخلصة، إلى احتضان هذه الأصوليات بغية استيعابها ففشلت.
4- أثارت شكوكاً مبررة أو غير مبررة لدى المجتمع المسيحي بمدى صوابية التحالف مع الخط السني واعتباره أقل خطراً من الخط الشيعي على كيان لبنان ونظامه، علماً أنه ليس على المسيحيين المفاضلة بين لبناني وآخر.
5- وفّرت الظرفَ المناسب لضرب تنظيمات أصولية وإرهابية سنّية، وهو مطلب دائم وملح للمجتمع الدولي من روسيا إلى أميركا مروراً بالاتحاد الأوروبي. وقامت سوريا بذلك انطلاقاً من الأراضي اللبنانية وبواسطة الجيش اللبناني.
6- نقلت موضوع البحث في مصير السلاح غير الشرعي في لبنان من أولوية نزع سلاح quot;حزب اللهquot; إلى نزع السلاح الفلسطيني. وشرّعت أبواب التسلح أمام مختلف الفئات اللبنانية تحسباً من الأعظم وخشية عدم تمكن الجيش من حسم الأوضاع العسكرية في حال تدهورها وانفجارها في أكثر من منطقة في الوقت نفسه.
7- فتحت ملف الوجود الفلسطيني في لبنان، ودفعت منظمة التحرير الفلسطينية، ولاسيما حركة quot;فتحquot;، إلى سلوك طريق دمشق للتفاوض مع النظام السوري حول الوضع الفلسطيني في لبنان وفي أراضي فلسطين المستعادة.
8- أضافت إلى الصراع السني - الشيعي المضبوط، بفضل وعي قادة المذهبين، صراعاً سنياً - سنياً غير مضبوط بسبب النزعة الإرهابية والجهادية المستحكِمة بالحركات الأصولية السنية من أفغانستان إلى لبنان وفلسطين مروراً بالعراق ودول الخليج العربي - الفارسي.
9- مَركَزَت الجيش اللبناني في قلب الاستحقاق الرئاسي، إذ كشفت أحداث مخيم نهر البارد بسالة الجيش ووحدته، وأظهرته المؤسسة شبه الوحيدة الباقية في هذه الدولة اللبنانية الممزقة، والملاذ الوطني أثناء الملمات، والبديل، من داخل النظام، عن الطاقم السياسي الفاشل والفاسد.
قد لا تكون سوريا، حين حركت أحداث مخيم نهر البارد، قصدت تحقيق كل هذه quot;الإنجازاتquot;. لكن ما جرى أدى إليها. فبين لبنان وفلسطين والعراق استطاعت سوريا، بعد انسحابها مهزومة من لبنان، أن تستعيد أجزاء من الأوراق اللبنانية والفلسطينية والشيعية والسنية والمسيحية، وأن تعود ممراً لا بد منه لمعالجة هذه الملفات. وما لم يحصل تغيير في هذه المعطيات والمعادلات الجديدة في الشهرين المقبلين، فعموم المبادرات والوساطات آيلة إلى الفشل، وتالياً يصبح حصول انتخابات ديموقراطية رئاسية في لبنان تُكمل مشروع السيادة والاستقلال، مسألة فيها نظر.
غير أن كل هذه النقاط التي سجلتها سوريا ليست كافية بعد لفك عزلتها وانخراطها في المجتمع الدولي. فإذا كان النظام السوري يظن نفسه بمنأى عن خطر السقوط الكامل، فالكيان السوري مهدد أكثر من سواه بالعدوى العراقية. لذا، آن لسوريا أن تدرك سريعاً أن دخولها نادي الدول الحضارية والمؤثرة في محيطها والعالم يتم اليوم من خلال إنجازات إيجابية كالأمن والسلام وتطبيع العلاقات وليس من خلال إنجازات سلبية كإثارة الفتن ودعم الإرهاب وتسخين الأنهر الباردة. لقد انسحبت سوريا من لبنان من دون أن تخرج، وتحلم بالعودة من دون أن تدخل...
التعليقات