النظام السوري يشرب من الكأس التي صنعها بنفسه:
تقرير ميليس يصيب سياسة الأسد في صميمها
وعلى النحو نفسه كانت اصابع الاتهام اللبنانية، تصيب بشظاياها المخابرات السورية منذ ذلك الوقت. لكن ما اختلف بين تلك العمليات الامنية وعملية اغتيال رفيق الحريري يكاد يشبه انقلاباً دولياً على الرعاية الدولية للهيمنة السورية على لبنان.
بعيد صدور القرار 1559 ذهب بعض المحللين اللبنانيين القريبين من دوائر الرأي والقرار في سوريا، إلى القول بأن هذا القرار اُعد ليوضع على الرف. وكثيراً ما حاضر الدكتور عماد فوزي الشعيبي في الصحف وعلى شاشات التلفزيونات مزدرياً كل الآراء التي رأت في هذا القرار خطراً داهماً. وجعل يذكر الناس والمحللين ببديهيات السياسة والدبلوماسية التي جعلت الهيمنة السورية على لبنان طوال ما يقارب العقدين قدراً لا راد له. لكن القرار اتخذ لينفذ بالحرف، ومن دون اي تعديل فيه، وما زال اللبنانيون والسوريون يعيشون تداعياته منذ صدوره عن مجلس الامن وحتى اليوم.
هل أخطأت الإدارة السورية في التقدير؟ يمكن القول ان الخطاً اصبح خطيئة مميتة، وان "الملف اللبناني" - فقد كان لبنان ملفاً لا أكثر ولا أقل في نظر الإدارة السورية - أخذ منذ ذلك الحين يحرق الأصابع السورية اصبعاً تلو الآخر. ربما لم تنتبه الإدارة السورية بعيد وفاة الرئيس حافظ الاسد، ان الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، والذي تصرفت تلك الإدارة بارتباك واضح حياله، إذ بدا لوهلة بعيد الانسحاب ان سوريا تريد المقاومة من اجل بقاء الاحتلال الإسرائيلي لا من اجل جلائه، ربما لم تتنبه هذه الإدارة ان قطع الاصبع السورية المقاومة من خلال رسم الخط الأزرق بين اسرائيل ولبنان هو مقدمة اكثر من ضرورية لفتح الملف السوري والشروع في اعتماد طريقة في التعامل حياله تختلف اختلافاً كلياً عن تلك التي اعتمدت بعد عاصفة الصحراء.
انسحبت اسرائيل من لبنان مرغمة، لكنها ايضاً حققت بانسحابها تأجيلاً متمادياً لملف الانسحاب من الجولان والمفاوضات السورية - الإسرائيلية على هذا الصعيد. فثمة اصبع سورية كانت تتحرك لتنكش جرحاً اسرائيلياً، كانت مربوطة إلى كف حزب الله المقاوم. وبانسحاب اسرائيل من لبنان بدا انه من غير الممكن لهذه الاصبع ان تتحرك وحيدة وان تغامر في اللعب بالنار التي اصبحت حامية منذ ذلك الحين. والحق ان من يراجع وقائع السياسة بين الاعوام 2000 و2005 لا بد وان يلاحظ ان الوكالة الدولية المعطاة لسوريا في التصرف حاكماً مطلقاً في لبنان لم تعد قائمة. (ينبغي ان نتذكر ان القرار 1559 سبقه اقرار الكونغرس الأميركي عقوبات على سوريا تعاملت معها الإدارة السورية بازدراء ايضاً). لكن هذه الملاحظة لم يكن مقدراً لها ان تغير في السياسة السورية شيئاً يذكر. فالسياسة السورية التي اعتمدت تقنية تشبه تقنيات قطاع الطرق لإدارة دورها الإقليمي، كانت تتغذى داخلياً من شرايين خارجية، هي لبنانية دائماً وفلسطينية وعراقية في احيان كثيرة، واردنية وتركية حين يتسنى للشريان السوري ان يتغذى من هين المصدرين.
عام 2002 وباشراف الوزير المنتحر غازي كنعان سدت تركيا كل الشرايين التي كانت تغذي النظام السوري، تحت تهديد الدبابات التركية التي كانت قد أخذت بالتجمع على الحدود. ومنذ العام 2000 اقفلت اسرائيل الشريان المستعار الذي كان يغذي حزب الله سوريا عبره من جنوب لبنان. وسرعان ما اذعنت الادارة السورية إلى طلب اردني بترسيم الحدود بين البلدين في العام 2004، مثلما اشتد الضغط على الإدارة السورية لتقفل مكاتب الفصائل الفلسطينية التابعة لها في دمشق. ومنذ ذلك الحين بدا ان العيش بشريان لبناني مستعار لا بد له وان ينقطع في يوم لم يعد بعيداً جداً. هكذا وجدت سوريا نفسها امام انقلاب دولي على دورها في المنطقة. ولم تجد بداً من ان تذهب في خياراتها حتى نهاياتها المنطقية. والنهاية في هذا المجال ليست اقل من اللعب بمصير النظام الذي تغذى طوال زمن حيويته من اللعب بمصائر الآخرين.
والحال لم تكن جريمة اغتيال الحريري بالنسبة للمجتمع الدولي جريمة يمكن السكوت والتغاضي عنها، نظراً إلى وزن الراحل الكبير . بل أيضاً، وعلى الأرجح، لم يكن الوقت مناسباً لسوريا مثلما ناسبها سابقاً. فلم يكن المجتمع الدولي سيعدم وسيلة لجعل سوريا تدفع من جرابها الذي جمعت عدته ومادته من اكياس الآخرين كل ما ملكته وكل ما تملكه عاجلاً أم آجلاً.
لهذا لا يعدم المسؤولون السوريون حجة حين يقولون ان التحقيق الدولي مسيس. فهذا درس سوري اولي في السياسة. إذ لم تكن السياسة بالنسبة إلى سوريا البعثية اكثر من هذا الللعب المتمادي بأمن جيرانها لتحقق عبر هذا اللعب بعض المكاسب السياسية وفي احيان اخرى هيمنة على القرار والمقدرات. والحال إن سوريا اليوم تشرب من الكأس التي صنعتها بنفسها. أدار النظام السوري سياسته بهراوة الامن، والامن نفسه اليوم يشكل الهراوة التي تهدد السياسة في سوريا، بل وتجعلها لاعباً من دون اوراق على الإطلاق.
لا شك ان الإدارة السورية تمر في وضع حرج جداً وتكاد تكون من دون اسلحة على الإطلاق. وليس ثمة عاقلان يختلفان في أن الضغط الأميركي – الفرنسي المدعوم دولياً سيجبر سوريا على الإذعان. لكن غاية هذا الاستطراد في تحليل سياسة قطاع الطرق السورية طوال العقود الثلاثة الماضية، له مستوى لبناني ينبغي الانتباه له بعد صدور التقرير.
يصر المسؤولون اللبنانيون على انشاء محكمة دولية في جريمة اغتيال الحريري. ذلك ان هؤلاء يرون، وبعد صدور التقرير الدولي خصوصاً، ان محاكمة المسؤولين عن الجريمة ليست في مستطاع اللبنانيين على اي نحو من الانحاء. والحق ان اللبنانيين المشتبه بهم الذين ذكرهم التقرير لا يشكلون معضلة كبرى. فبإمكان قالقضاء اللبناني ان يصدر مذكرات توقيف وجاهية وغيابية في حق كل واحد منهم، ولن يستطيع اي منهم ان ينجو من مفاعيل هذه المذكرات. لكن الإشتباه بمسوؤلين سوريين وفلسطينيين يضع القضاء اللبناني والنظام السياسي اللبناني من خلفه، امام معضلة حامية. هل يصدر المحقق مذكرات توقيف غيابية في حق المسؤولين الامنيين السوريين والفلسطينيين الذين ورد ذكرهم في التقرير؟ وهل يستطيع ان يلاحق هؤلاء؟ وماذا لو لم تستجب سوريا إلى طلب القضاء اللبناني؟ والحال، فإننا امام بوادر رفض سوري للتعاون، سيجعل سوريا تناور لبعض الوقت قبل التسليم النهائي، فليس لها قدرة ولا قبل لها بمقاومة الضغوط الدلولية الهائلة. وفي ظل هذا الرفض، لن يستطيع القضاء اللبناني ان يطلب محاكمة السوريين من دون غطاء ودعم دوليين لا حدود لهما. فضلاً عن ضرورة تأمين حد ادنى من الاتفاق بين القوى السياسية اللبنانية على القبول بمثل هذا الدور. لذا يبدو طبيعياً ان يطالب المسؤولون اللبنانيون بإنشاء محكمة دولية تنظر في هذه القضية. ذلك ان احداً في لبنان لا يعتقد ان الإدارة السورية ستتعامل مع القضاء اللبناني بوصفه سيداً مستقلاً او تساعد على بقائه سيداً مستقلاً، من خلال تسليم المشتبه فيهم. هكذا يساهم التعنت السوري مرة أخرى في تهميش القضاء اللبناني واضعاف دوره. فحتى حين تكون سوريا في احلك لحظات تاريخها، لا تجد متسعاً للعب دور ايجابي وحيد، يخدم في نهاية المطاف شعاراتها الرنانة. إذ ثمة فارق كبير بين ان يحاكم سوريون في لبنان على جريمة يشتبه بأنهم اقترفوها فيه، وبين ان تتم محاكمتهم في لاهاي او فيينا. الفارق بين الامرين شاسع وبالغ الاهمية. فأن يبدا القضاء اللبناني معركة استقلاليته ونزاهته بحصر المحاكمة في قاعات محاكمه، لهو اقصر الطرق واكثرها وضوحاً اليوم في درب جلجلة استعادته بعض القرار الذي يبدو اليوم خارجياً بامتياز.
لكن مثل هذا الأمر يشترط تغييراً في السلوك السوري، لن نتفاءل في التصديق انه ممكن الحدوث. فوقائع الأعوام الخمسة الأخيرة، تشير من دون لبس، ان الإدارة السورية ستقضي نحبها بإطلاق رصاصة في الفم، ولن يكون سببها الإعلام الحاقد هذه المرة، بل قصر النظر الذي يلازم الإدارة السورية منذ سنوات.
التعليقات