لا شك أن أي حل يوقف نزيف الدم في النجف، ولو كان جزئيا ومؤقتا، هو، لو أخذناه بحد ذاته، إيجابي. ولكن المهم: ما هي النتائج المترتبة على ذلك: هل سيودي لسلام حقيقي وعادل في المدينة وأنحاء أخرى من العراق؟ هل سيحقق العدالة للضحايا بمعاقبة المسؤولين عن جرائم شنيعة كقطع الرقاب وفقأ العيون وسلقها؟ هل سيعزز هيبة القانون ويردع الإرهاب والجريمة وعمليات الخطف وتفجير أنابيب النفط؟

لقد عبرت قبل يومين، كما عبر الدكتور عبد الخالق حسين أمس، عن المخاوف من نداء السيد السيستاني للزحف الشعبي على النجف. ولولا ذلك النداء لما قتل عشرات أخرى من العراقيين في الكوفة، ولمات تجرأ الصدريون على الزحف من البصرة وبغداد والكوفة وهم يحملون صور الصدر.

إن توقيت عودة المرجع الكبير للعراق مكن المستشفى، ودعوته للزحف، كان يلفت النظر. فالتوقيت تم قبل ساعات من اقتحام القوات الحكومة للمسجد العلوي لتطهيره من أرجاس العابثين بالمقدسات وأمن المواطنين. وكانت القوات الحكومية قادرة فعلا على طرد الإرهابيين بالقوة، والقبض على المتهمين منهم بالجرائم، وعلى من معهم من فلول فدائيي صدام أو عناصر الجريمة المنظمة. وكنا قد حذرنا قبل حوالي الأسبوع من تردد الحكومة في الإقدام على الحسم المطلوب بعد رفض السيد مقتدى لمقابلة وفد المؤتمر الوطني مع أنه قابل وفد "هيئة علماء المسلمين" الصدامية الزرقاوية، التي ترعى عمليات الخطف وقطع الرقاب في الفلوجة وتخص قناة الجزيرة بشرائط تسجل تلك الأعمال البربرية المتوحشة. وقد انجرت الحكومة فعلا وراء خدع الصدر ومناوراته المتكررة وخسرت أياما من الوقت الثمين للغاية. وقدقلنا إن أي وقت يضيع سيكون لصالح الإرهابيين وعلى حساب القانون وهيبة الحكم والقانون ويعرض الالتفاف الشعبي حول الحكومة إلى التآكل . وقد صحت التوقعات مع الأسف بما أسفرت عنه الجهود من حل أعرج هو أشبه تقريبا بالهدنة الهشة في الفلوجة وبحبل إنقاذ للصدر.

صحيح، لقد خرج الصدريون [ كما قيل ] من المسجد المقدس، وسلم بعضهم قطع سلاح. ولكن ليس مؤكدا أن جميعهم فعلوا ذلك في خضم " هوسة" الازدحام الشعبي للدخول للمسجد. ولا نعرف شيئا عن مصير سجون الصدر في المدينة ومحاكمه القره قوشية من النمط الصدامي. ولا نعرف هل تذهب دماء الضحايا من الشرطة هباء أم أن المسئولين عن قطع الرقاب وغلي العيون سوف يقدمون للمحاكم ليأخذ العدل مجراه.

إن جيش المهدي لم يحل، وقدرات الصدر العسكرية لم تضعف إلا قليلا. فإيران ستواصل مده بالسلاح والمال وضباط المخابرات، والفضائيات المغرضة ستواصل حرق البخور له بوصفه " بطل مقاومة الأمريكان"، مع أن القوات الأمريكية كانت قد خرجت من النجف قبل شهور عديدة ولم تعد إلا بدعوة من الحكومة بعد أن سيطر جيش المهدي بالعنف على المدينة واختطف أهلها وأماكنها المقدسة. ولولا القوات الأمريكية بالدبابات والطائرات لما استطاعت القوات الحكومية أن تهزم قوات الصدر وحصونهم من حول المسجد وأن تقترب بضعة أمتار من المداخل لإلحاق الهزيمة التامة بالصدريين المسلحين لولا العودة المفاجئة المقترنة بدعوة الزحف لآية الله السيستاني. وكانت بعض التقارير قد أشارت أمس إلى أن الحدث كله يرتبط بزيارة السيد الجعفري لطهران، وأنه لا يستبعد أن تكون الفكرة أصلا إيرانية لمنع الحسم العسكري باسم وقف النزيف الشيعي وذلك كمن يضع السم في العسل. إننا لا نعرف مدى دقة هذه التقارير، ولكننا لا نشك أبدا في النوايا النبيلة للمرجع الكبير وحرصه الصادق على استتباب السلام في النجف والكوفة. ولكن للإيرانيين دهاء ومكرا معروفين في عالم السياسة ومناوراتها!

لقد حققت الحكومة بعض شروطها في النجف ولكن الصدر لم ينهزم. وقد ربح المرجع الكبير أوراقا كثيرة دينية وسياسية أيضا. ولكن على مساعديه أن يؤكدوا له أن الصدريين يكرهون المرجعية وأن أمرهم بيد إيران التي لن تسلم بوجود المرجعية الشيعية العليا في العالم الإسلامي في العراق.

وإذ نحيي الجهود السلمية والعسكرية للحكومة ورئيسها ووزير دفاعها، ونحيي شجاعة القوات العراقية وحسها الوطني، فالمطلوب أن تستوعب الحكومة الدرس في حل قضية الإرهاب والمشكلة الأمنية، وأن تضرب بحزم عندما يكون ذلك ضروريا وقبل فوات الأوان، وبذلك تخدم المصالح العليا لكل الشعب، وتفرض سيادة القانون، و تعزز وتطور ما حققته من خطوات في كل الميادين، ولا سيما انعقاد المؤتمر الوطني وانتخاب البرلمان المؤقت. كما أن قيام الحكومة بواجبها الأمني، حتى في ظرف دقيق ووضع حساس، يقوي مركزها ويحد من مساعي رجال الدين للتدخل في الصميم من شؤون الدولة والسياسة.

إن الخطوات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية يجب أن تسير مع الخطوات الأمنية لأن الأخيرة هي ضمان الحرية وحاميتها. فالأمن والحرية مترابطان.