تحقيق انطون الخوري حرب

كيف كانت يوميات العـماد مـيشال عـون في منفاه الفرنسي؟
أعمال وانشغالات كثيرة وهدف واحد: تحرير لبـنان


عاد العماد ميشال عون الى لبنان بعد خمسة عشر عاما من المنفى عامرة بالآلام والآمال. في ما يأتي تحقيق عن يومياته الفرنسية: كيف عاش؟ كيف واصل نضاله؟ كيف كان يتواصل مع انصاره ومؤيديه؟ وكيف كان يحلم بالعودة الى لبنان؟... وهو حلم حققه بعد طول انتظار.

رغم الحظر الاعلامي الذي فُرض على العماد ميشال عون في الفترة الاولى في منفاه الفرنسي فانه تمكن مع بعض وسائل الاعلام، ولاسيما المكتوبة منها، من خرق هذا الحظر تدريجيا، ليلقي الضوء على مواقفه السياسية من الحوادث والتطورات التي مر بها وطنه.

لكن حياته اليومية او يومياته، بقيت في دائرة الكتمان، لأسباب اولها امني، وثانيها عدم اهتمام العماد عون وافراد عائلته بهذا الجانب، واخيرا لعدم اهتمام وسائل الاعلام نفسها ولعدم توافر المناسبة. لكن الرجل كانت لديه حياته الخاصة التي وجب تكييفها مع شروط النفي. فكيف كان العماد عون يتنقل خارج امكنة اقامته الثلاثة من مرسيليا الى الريف الباريسي الى الدائرة السابعة عشرة في قلب العاصمة الفرنسية؟ وكيف كان يمضي اوقاته ومع مَن؟ وكيف تبلورت عاداته اليومية وعلاقاته الاجتماعية مع اللبنانيين والاجانب في لبنان والخارج؟ ما هي هواياته الجديدة والقديمة المتجددة؟ باختصار كيف عاش قائد الجيش ورئيس الحكومة السابق حياته في ظل هدوء نمط الحياة الفرنسي، بعد صعوده وخروجه الصاخب من كل المواقع اللبنانية؟

في السفارة

اثناء فترة وجوده في السفارة الفرنسية في الحازمية بعد 13 تشرين الاول 1990 حتى 20 آب 1991 كان العماد عون في البداية امام تحدي التحول الى الروتين اليومي والفراغ من اي مسؤولية عملية او تنفيذية. وفي اليوم الاول بعد دخوله السفارة، بدا امام ابنته كلودين التي التحقت به مع امها وشقيقتيها، رجلا آخر. فبعد ساعات على خروجه من بعبدا، كان ميشال عون المدني يرتدي بذة مدنية حاملا بيده كتيبا يتضمن الاعلان العالمي لحقوق الانسان!

في الاسبوع الاول كان العماد عون منشغلا بتقصي اخبار ضباط الجيش وعسكرييه الذين كانوا في المراكز القيادية وعلى الجبهات. وبعد اسبوع كانت عائلته تغادر السفارة ولبنان الى فرنسا، من مطار بيروت بطائرة رسمية فرنسية من طراز "فالكون". ولم يبق داخل السفارة الا العماد عون، اضافة الى اللواءين ادغار معلوف وعصام ابو جمرة ومرافقه الشخصي النقيب حبيب فارس. وكان عون يعيش فترة تأمل في الماضيين القريب والبعيد، ويترقب المستقبل. فكان يبدو معظم الوقت صامتا، لكن ابحاره في افكاره كان واضحا. القلق، قلة النوم، تراجع الرغبة في تناول الطعام، عدم الرغبة في قراءة الاخبار او حتى سماعها. فقط كان يهتم بقراءة الرسائل التي بدأت تصله من المواطنين العاديين، وفي الرد على ما استطاع منها. وكان عون يعقد حلقات مناقشة مع الرفاق، واخرى مع السفير الفرنسي، اضافة الى بعض الاحاديث العائلية مع العائلة التي سمح لها وحدها بمهاتفته من فرنسا.

الى فرنسا

عندما خرج العماد عون من السفارة الفرنسية الى فرنسا، ركب مع رفاقه زوارق مطاطية مرتدين السترات الواقية من شاطىء انطلياس الى بارجة حربية فرنسية كانت تنتظرهم خارج المياه الاقليمية اللبنانية في الليل. ولدى وصولهم الى البارجة اجريت لهم مراسم تشريف عسكرية رسمية. وفي الفجر تمت مواكبتهم عسكريا الى مطار لارنكا، ومنه جوا الى مرسيليا في جنوب فرنسا، والى قصر تاريخي قديم تابع للحكومة الفرنسية يدعى "فيللا غابي".

في "فيللا غابي" مكث العماد عون من آب 1991 حتى شباط 1993. لم يكن يخرج من مقر اقامته الذي كان محوطا بقوة حماية ضخمة فرنسية برا وبحرا وجوا وداخل الفيلا بكثافة. وكان يصحو باكرا على عادته، بعدما استعاد سكينته، ليبدأ الاطلاع على الاخبار اللبنانية في لبنان يرافقه هاتفه الذي كان جسر التواصل الوحيد مع لبنان. وفي مرسيليا كانت الزيارات قليلة جدا، فكان يستقبل بعض الضيوف والوفود الصغيرة بين الحين والآخر، وفي المساء كان "يغوص" في قراءة الكتب المنوعة وفي كتابة انطباعاته. وفي اوقات التأمل كان يستمع الى الموسيقى الكلاسيكية. في نهاية الاسبوع كان يجتمع بعائلته التي تأتي من العاصمة باريس للقاء الوالد وتمضية بعض الوقت معه. وبعد شهرين من الاقامة في مرسيليا غادرها اللواء ادغار معلوف لينضم الى عائلته في سويسرا، كما غادرها اللواء عصام ابو جمرة الى مدينة نيس على الشاطىء الفرنسي، لينضم بدوره الى عائلته.

"البيت العالي"

من مرسيليا خاض العماد عون معركة مقاطعة الانتخابات النيابية الاولى بعد الحرب عام 1992، لينتقل بعد شهر الى مقر اقامة جديد يقع وسط غابة كبيرة في الريف الباريسي، مسورة ومطوقة من عناصر الحماية الفرنسية الخاصة، حتى ان جريدة "لوموند" كتبت يومها: "ميشال عون الرجل الاكثر حماية في العالم". في غابة La Haute Maison كان العماد عون اكثر حرية من مرسيليا. فنهاره يبدأ برياضة صباحية في محيط المنزل، تليها جولة على "الزريعة" التي كانت كناية عن "تشكيلة" مزروعات بلدية لبنانية: فجل، خس، بقدونس، نعنع بصل، روكا... وكان العماد يقوم بتنقيتها يوميا وريها مع شجرات الارز التي زرعها بنفسه. ثم يتناول الفطور مع زوجته ومرافقيه ليبدأ "جولة" في القراءة والمطالعة والكتابة.

وبعد الساعة العاشرة صباحا "تنهمر" الاتصالات الهاتفية، ومن بعدها الاستقبالات والاجتماعات التي تصاعدت وتيرتها. فهو اصبح على مسافة قريبة من العاصمة الفرنسية، وبالتالي اصبحت عملية التواصل بينه وبين الناس اسهل واقل تكلفة. اما ليله في "البيت العالي" فكان يطول لأنه يبدأ باكرا، والعماد لا يحب النوم المبكر. فاذا كان يستقبل ضيفا فان السهرة تكون عامرة بالذكريات والشجون. واذا كان بمفرده كانت السهرة عائلية او ثقافية متخمة بالمطالعة التي "يتغذى" بها من مكتبته الضخمة المتنقلة معه.

نادرا ما كان العماد عون يخرج من "البيت العالي" فهو لم يكن يترك مقر اقامته اما لزيارة الطبيب، او لالقاء محاضرة.

وفي "البيت العالي" قدّر للعماد ان يصاب بأكبر خيبة أمل بعد انتخابات 1996، اذ لم يستجب نداء المقاطعة الذي أطلقه الا قلّة من اللبنانيين. وهناك فكر للمرة الاولى باعتزال العمل السياسي على قاعدة أنه حاول جهده وأصبحت المسؤولية عن مستقبل لبنان بأيدي اللبنانيين. ومن ذلك المنزل ايضاً خرجت ابنتاه كلودين وميراي الى بيت الزوجية، وهناك ايضاً حضن اول حفيد له من ابنته البكر.

في باريس

عام 1999 قرّر عون الانتقال من مقر اقامته الثاني الذي كان قدمه له المرحوم جوزف أبو ديوان الى منزل ابنته ميراي في الدائرة 17 في باريس. هناك اصبح تواصله مع مؤيديه وزائريه أكثر سهولة. وانتقل هو شخصياً الى العمل المنظّم أكثر فأكثر . فكان يبدأ نهاره بكتابة "النشرة اللبنانية"، ثم يذهب بعدها لممارسة رياضة المشي في "بارك مونسو" قبالة شارع فالزبورغ الذي يقطنه من دون مرافقين او حراس. فكان يختلط بالناس، وأحياناً كان يلتقي لبنانيين يتنزهون في هذه الحديقة العامة فيتحدث اليهم ويجالسهم. وبعد الرياضة الصباحية تبدأ اللقاءات والاتصالات، وينكبّ على استعمال الكومبيوتر، وعبره اصبح تواصله مع تياره في لبنان وبلاد الاغتراب أكثر تنظيماً وفاعلية وسهولة. وبعد هذا الانتقال اصبح العماد يأتي الى مكتب التيار في باريس ويعقد الاجتماعات مع "التجمع من اجل لبنان"، ويواكب كل تحرّك للقيادة في لبنان من هذا المكتب. وكان يذهب لحضور القداس في كاتدرائية سيدة لبنان.

في الشارع الموازي للشارع الذي يقطنه يوجد مطعم "الرمال" اللبناني الذي كان العماد يرتاده سيراً ، ليشارك كوادر "التيار الوطني الحر" طعامهم في مناسبات عدة أهمها الخلوات والمؤتمرات التي كان يعقدها التيار مع قائده في باريس لمتابعة الشؤون التنظيمية والسياسية.

مرحلة وخصائص

لقد وفرت هذه المرحلة للجنرال قدرة أكبر على التحرك خارج باريس وفرنسا. فخلالها سافر للمرة الاولى الى الولايات المتحدة الاميركية بعد حوادث 7 آب 2001، ثم قام بزيارات وجولات الى اوستراليا وكندا والفاتيكان. وفي هذه المرحلة ايضاً شارك في تنظيم وحضور عرس احدى بناته للمرة الاولى وكانت هذه المشاركة من نصيب أصغرهن شانتال. واكتمل هناك زواج كل بناته، وراح الجنرال "يستقبل" أحفاده الذين بلغ عددهم الستة.

بين عامي 1999 و2005 كانت رتابة الحياة تتحوّل دينامية متصاعدة عبر المحاضرات التي كان يلقيها في الجامعات والمهرجانات اللبنانية عبر الهاتف، كذلك عبر المتابعة الدؤوبة للاستحقاقات التي خاضها تياره في لبنان.

ان هذه الوقائع تثبت ان حياة الجنرال، التي لم تعرف الاستقرار يوم كان عسكرياً، لم تتغيّر في المنفى كثيراً، لان اصراره على متابعة حركته السياسية كان يمنعه من الراحة ويرتّب عليه التزامات، ولا يترك مجالاً كبيراً للهدوء الكامل. وقد يكون هذا قدر الرجال امثال "الجنرال".

عاد "الجنرال" الى لبنان. ولا شك في ان اموراً كثيرة ستتغيّر في يومياته. فهو، رغم النفي، يتمتع بحرية حركة جسدية اكثر في فرنسا، البلد الآمن والديموقراطي، وهذا ما قد يفتقده في لبنان. وستكون رياضته ونزهته داخل سور منزله الجديد في الرابية كما كان يفعل في باريس. وهو قد يفقد القدرة على الرؤية المتجردة كما من باريس عبر البعد عن المعمعة الداخلية. وستصبح مساحة الهدوء في علاقاته مع جمهوره أكثر ضجيجاً. لأن هذه العلاقة ستصبح مباشرة وليس عبر الهاتف او التلفزيون فقط.

والآن اشرقت الشمس على "الجنرال" في لبنان بعد خمسة عشر عاماً من النفي القسري، وسيسمع للمرة الاولى زقزقة العصافير فوق اشجار بيته. وسيشاهد التبدلات التي حصلت في عقد ونصف عقد من الغياب، لكن الاكيد أنه لن يركن الى الهدوء ولن تتغيّر عاداته اليومية كثيراً مهما تغيرت الموضوعات والاولويات. فهو خرج من الصخب والى الصخب يعود، كأن قدر هذا الرجل ان يكون صاخباً في مراحل حياته كلها.