تشهد عدة بلدان أفريقية، على رأسها جنوب أفريقيا، تنامي ظاهرة التنقيب غير الشرعي في المناجم المهجورة، حيث يتخذ آلاف المنقبين من الحفر القديمة التي خلفتها الشركات الكبرى فضاءً لكسب لقمة العيش، في ظل واقع اجتماعي واقتصادي مأزوم. هؤلاء، المعروفون محلياً باسم “زاما زاما”، أي “الذين يحاولون”، يمثلون شريحة واسعة من المهمشين والعاطلين من العمل، ممّن دفعهم الفقر وغياب البدائل إلى المخاطرة بحياتهم في أنفاق غير مؤمّنة، تتحول غالباً إلى مقابر جماعية عند وقوع الانهيارات أو الكوارث المفاجئة
.
وتشير التقديرات في جنوب أفريقيا وحدها، إلى وجود أكثر من ستة آلاف منجم مهجور، أغلبها من بقايا قرون من الاستغلال المكثف للذهب والفحم. وبعد انسحاب الشركات الكبرى لأسباب اقتصادية وبيئية، تُركت هذه المناجم دون حراسة أو تأمين، فأصبحت هدفاً لعصابات تستغل حاجة الفقراء وتُدير نشاطاً موازياً خارج أي رقابة رسمية.
جاء التحول الأساسي في مسار هذا القطاع مع تبنّي الحكومة عام 2002 قانوناً جديداً ضمن سياسة “التمكين الاقتصادي الواسع للسود”، التي تهدف إلى تصحيح مظالم الماضي عبر منح فرص أكبر للمواطنين السود في القطاع المعدني. لكن في المقابل، أدى هذا القانون إلى تراجع استثمارات الشركات الكبرى، وتخفيف المعايير البيئية، وغياب الرقابة، ما خلق فراغاً استُغل لصالح تنامي نشاط “زاما زاما”.
يعمل هؤلاء المنقبون في ظروف شديدة القسوة، داخل شبكة أنفاق غير مضاءة أو مهوّاة، ولا تخضع لأي شكل من أشكال التنظيم. ويعتمدون على أدوات بدائية في الحفر، وأحياناً يستخدمون مواد متفجرة غير خاضعة للرقابة، ما يرفع من احتمال وقوع الحوادث.
في مدينة ستيلفونتين، على بعد 170 كيلومتراً من جوهانسبرغ، يعيش مئات المنقبين تحت الأرض لفترات قد تصل إلى ثلاثة أشهر متواصلة. يبيعون ما يجدونه من ذهب في السوق السوداء، ويتقاضون أجورهم من قادة العصابات التي تشرف على العملية. وتشير بعض الشهادات إلى أن العامل الواحد قد يجني سنوياً ما بين 15 ألف دولار و22 ألفاً، وهو مبلغ يتجاوز بأضعاف ما يمكن أن يحصل عليه في أي وظيفة رسمية في القطاع.
لكن هذه المكاسب المالية لا تُخفي الطبيعة القاسية لهذا العمل، إذ يتحدث بعض العمال عن أماكن في باطن الأرض تُعرف باسم “مقبرة الزامازاما”، حيث دُفن من لقوا حتفهم أثناء العمل دون أن يتمكن أحد من انتشال جثثهم. كما توثّقت حالات اختطاف لعمال أُجبروا على العمل في ظروف أشبه بالعبودية. وفي ظل غياب القانون، تتحكم العصابات في كل تفاصيل الحياة داخل المناجم، إذ تُراقب العمال على مدار الساعة، وتُجبرهم على تسليم كل ما يعثرون عليه من ذهب مقابل أجر أسبوعي أو نصف شهري.
لا تقتصر هذه الظاهرة على جنوب أفريقيا، بل تشمل العديد من الدول الأفريقية الأخرى مثل غانا، مالي، بوركينا فاسو، غينيا، والكونغو الديموقراطية. ففي غانا وحدها، يُقدَّر عدد المنخرطين في اقتصاد التنقيب غير النظامي بنحو 4.5 ملايين شخص. وعلى الرغم من كونه نشاطاً غير قانوني، فقد أصبح مصدر رزق أساسياً لملايين الفقراء، في ظل تراجع الزراعة، وانعدام التنمية في المناطق الريفية، وغياب الحماية الاجتماعية. لكنه، في الوقت نفسه، يتسبب بأضرار بيئية خطيرة بسبب استخدام مواد سامة مثل الزئبق والسيانيد، ما يؤدي إلى تلوث التربة والمياه الجوفية، ويقوّض جهود التنمية المستدامة.
ولئن كانت المقاربة الأمنية وحدها في التعامل مع هذه الظاهرة لن تُجدي نفعاً، فإن هناك حاجة إلى إطار تشريعي وتنظيمي يأخذ في الاعتبار واقع الفقر، ويُعيد دمج التنقيب الحرفي ضمن الدورة الاقتصادية الرسمية، مع ضمان الحد الأدنى من شروط السلامة والصحة والعدالة. فالمسألة، في جوهرها، ليست فقط متعلقة بالذهب، بل بحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروات في قارة تمتلك الكثير، بينما يعيش الملايين فيها على القليل.
- آخر تحديث :
التعليقات