عمر كرامي (2 من 2)
السنية السياسية في ميزان لبنان
بلال خبيز من بيروت: لم يشهد لبنان طوال تاريخه تخليًا دوليًا عنه كما حدث في زمن الهيمنة السورية. يبنغي على المرء التكرار دائمًا وابدًا ان السيطرة السورية ما كانت لتمتد وتقوى جذورها لولا الإجازة الدولية التي حكمت سورية لبنان بموجبها. هذه الإجازة الدولية هي التي جعلت كل مقاومة للوجود السوري تصطدم بحائط صفيق من التجاهل الدولي. منذ ايام التقى البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الرئيس الأميركي جورج بوش في البيت الأبيض، لكن الأمور لم تكن دائمًا على هذا القدر من الود والتأييد والاهتمام، لم يمض زمن طويل بعد على جولة البطريرك نفسه في اميركا الشمالية داعيًا لمساعدة لبنان في التحرر من نير الهيمنة السورية التي تشكل قيدًا على تطوره استتباب سلمه الأهلي. لكن الجولة تكسرت على اعتاب البيت الأبيض. رفض المسؤولون الأميركيون يومذاك تدبير اي لقاء لصفير بالرئيس الأميركي لئلا يغضبوا سورية. يومها ايضًا كان البلد رهينة في يد الإدارة السورية وكان البطريرك يطالب بأن يكون لبنان بلدًا، فقط بلد كأي بلد من بلاد العالم المتسع.
رغم ذلك لم يجد اذانًا صاغية في اي مكان من العالم. كان البلد مهملًا إلى درجة مفجعة، الامر الذي يجعل المرء يطرح تساؤلات لا تحصى عن سبب هذه الحماسة المفاجئة. المغزى من هذا الاستطراد ان الإدارة السورية لم تكن مستمرة في البلد بسبب حنكة ساستها وقدرات سورية ومواردها التي لا تحصى. كان الأمر برمته مفارقة مذهلة: بلد صغير يفوق دخله القومي دخل سورية القومي. مع ذلك فسورية تحكمه من دون موارد. وما الصفقات المالية والخوات والابتزازات التي قام بها المسؤولون السوريون في لبنان فعل ضباط فاسدين، بل ثمة اصرار سوري على إعالة النظام السوري بابتزاز الاقتصاد اللبناني، وثمة تصدير لأزمات اجتماعية عبر تصدير العمالة غير الماهرة إلى بلد أصغر ومن دون ضوابط على الإطلاق.
كانت سورية تحكم لبنان في الأمن والسياسة وتقرر حربه وسلمه لكنها ايضًا تجبره على جر اقتصادها المنهك وحمايته من السقوط. الخلاصة ان الهيمنة السورية كانت ضد المنطق نفسه، حيث لا موارد تحمي المهيمن وتبرر هيمنته ولا افكار تساق تبريرًا للهيمنة. حكمت سورية بلدًا على اتصال وثيق بالعالم واسباب المعاصرة بجهاز من الماضي السحيق ورغم ذلك نجحت في حكمه. السر يكمن في هذا التغاضي الدولي عن استرهان لبنان والذي فاق كل حدود الاحتمال.
هذا التغاضي الدولي نفسه اصاب البلد بأعطاب بنيوية في متن سياسته.
الموارنة في بداية الأمر استنكفوا ورفضوا المشاركة. لكنهم في النهاية نظموا معارضة كانت إلى حد بعيد تشبه العصيان.
الشيعة انساقوا إلى التماشي مع الهيمنة بوصفها فرصة لا تعوض لطائفة ظلت على الدوام على اعتاب الدولة اللبنانية ولم تدخل محرابها.
اما السنة في لبنان فتضرروا اشد الضرر من هذه الهيمنة. تضررت البنية والآلية التي تُنتج الحيوية السياسية في خضم اشتغالها. تاريخ هذه الطائفة وبسبب من مواقعها الجغرافية ومداها المفتوح على العالم العربي وطبيعة الدستور اللبناني والأعراف المتبعة جعلها اشد المتضررين سياسيًا من الهيمنة السورية على البلد.
كان البلد يدير اشرعة علاقاته السياسية الخارجية بحسب الرياح الأقوى والأعتى، وكانت الطائفة السنية التي استلمت على الدوام وعلى مر التاريخ اللبناني زمام السلطة التنفيذية تنتج سياسيين وازنين في نادي رؤساء حكوماتها على علاقات متينة بكافة مصادر الرياح من المملكة العربية السعودية إلى العراق فمصر فسورية، فضلًا عن العلاقات باوروبا واميركا. فكان رئيس الحكومة يحكم بحكم علاقاته الخارجية من جهة اولى، وبحكم وزنه في الشارع من جهة ثانية.
وعلى مر التاريخ لم ينجح رئيس حكومة في كسب ود الطائفة إذا لم يكن اكبر من حدود بلده الضيقة، فما ان يوالي رئيس الحكومة رئيس الدولة على نحو قاطع، اي ما ان يجعل من رئاسة الدولة معيارًا له في تدبير شؤون السياسة العامة حتى يفقد كل امل له في البقاء على قيد التأثير السياسي.
كان ثمة رؤساء حكومات يديرون علاقات واسعة مع العالم اجمع. وكان رئيس الحكومة، على ما يقول الراحل صائب سلام، معارضًا ما ان يخرج من الحكم ومواليًا ما ان يعود إليه. لم يكن وجود الزعيم السني في السلطة هو ما يعطيه سلطته وحضوره في السياسة اللبنانية، انما قدرته على ان يصبح رئيسًا لاحقًا. الزعيم السني خارج الحكم قوي وحاضر بقوة حضور الزعيم السني في الحكم، وحيث ان الدستور لا يفرض شروطًا زمنية على ترؤس الحكومات كان رئيس الحكومة الخارج اليوم من السرايا يعرف انه سيعود إليها غدًا.
عطلت الهيمنة السورية هذه الآلية. لم يعد ثمة من فائدة تذكر للتداول، كان الضباط السوريون يديرون البلد تمامًا ويريدون رئيسًا ينفذ شكلًا ما يقررونه فعلًا. والحق ان الرئيس الحريري كان الوحيد الذي يمكنه ان يثقب هذه الخابية ويترك زيتها يتسرب ببطء شديد. فالرئيس الحريري لمن يتذكر اداؤه في سنوات حكمه الأولى، كان حين يُسأل في السياسة العامة يجيب بجملة او جملتين، لكنه حين يُسأل في اقتصاد البلد يستفيض في الشرح ويسهب. كما لو انه يقول ان السياسة العامة تم تخصيصها للإدارة السورية، مثلما تم تخصيص المقاومة والتحرير لحزب الله الشيعي.
كثيرًا ما استغرب محللون اقتصاديون قبول سورية بالدور الاقتصادي الذي يقوم به الحريري في لبنان، واعتبروا هذا الدور ضد المصلحة السورية. وهذا على الأرجح صحيح إذا ما افترضنا ان سورية كانت تستطيع الصمود. لكن الإدارة السورية كانت تدرك على الأرجح انها مضطرة لشرب الكأس الحريرية، لأن الدور الاقتصادي الذي يقوم به الحريري يفتح البلد على استرهان اقتصاده للخارج من جهة لكنه من جهة اخرى يستطيع ان يمكنها من تقطيع الوقت وجر اقتصادها المنهك قبل وقوع الفجيعة وحدوث الانهيار الشامل في سورية نفسها.
والأرجح ان هذه هي الثغرة التي نفذت منها مياه الخارج إلى شقوق السيطرة السورية. ربما ينبغي ان نتذكر انه بعد مرور اسبوع على اغتيال الحريري دعت الهيئات الاقتصادية في لبنان إلى اضراب شامل، ونفذ الاضراب من دون خروق. هذه الهيئات الاقتصادية كانت على الدوام حصنًا حصينًا لم يخترق اسوارها الصفيقة والصماء اي قوة سياسية، لا يسار السبعينات والستينات ولا الاتحاد العمالي العام في عز سطوته وامتداده، ولا الطوائف ولا الحكام. اضربت الهيئات الاقتصادية بطلب طالب وفعل فاعل، وارسلت رسالتها واضحة: قد يكون الأمن من اختصاص المخابرات السورية، وقد يكون للمقاومة أباء وبنون، ونحن نريد ان نعلمكم ان الاقتصاد ايضًا له سيد يخدمه وهو ليس سوريًا على نحو قاطع.
هذا الشق الذي اتسع اطرادًا وتغذت منه زعامة الحريري السياسية بدا قبيل اغتياله اصعب من ان يرتق فتقه، ومن هذا الشق نفسه تغذت الصدوع في جدار الهيمنة السورية على نحو لا يمكن ايقافه. لكن هذا السلوك كان يفرض على نادي رؤساء الحكومات السنية ان يكونوا جميعًا من وزن الحريري اقتصاديًا. كان يفترض بالحيوية السياسية في الطائفة السنية ان تتغذى من امبراطوريات مالية واقتصادية، وهذا لم يكن في امكان احد غير الحريري في طبيعة الحال. والحال فإن رؤساء الحكومات السابقين واللاحقين للحريري لم يكونوا قادرين على العمل في السياسة ولا قادرين على الاستنكاف عنها، وحكمًا لم يكونوا قادرين على استبدالها بالمشروع الاقتصادي.
كانت الهيمنة السورية تمنع السياسة عن البلد وتحجزها في قمقم الجنرالات، وهذا يعني ان الطائفة السنية لن تستطيع العمل في السياسة من قريب او بعيد، وطبعًا لن يستطيع مقدموها ان يلعبوا ادوارًا اقتصادية كالتي كان في وسع الحريري ان يلعبها. وربما من المفيد ان نذكر ان الرئيس لحود حاول الإيحاء ان ثمة بديلًا للحريري وهو من دون شك افضل منه واقدر على لعب دوره يتمثل في الامير السعودي الوليد بن طلال ذو بعض الجذور اللبنانية.
في بلد محجوزة سياسته على النحو الذي ارسته الهيمنة السورية ولا يستطيع اي كان ان يلعب دورًا اقتصاديًا على النحو الذي ارساه الحريري، كان لا بد لأهل السياسة من العائلات السنية العريقة ان يجدوا انفسهم مكبلي الأيدي ومن دون قدرة على التحرك. لهذا شهد البلد نوعًا من الضمور في توليد القيادات السنية على نحو لم تشهده الطوائف الأخرى المتغذية على الدوام من سياسات محلية. وبدا كما لو ان الهيمنة السورية اذا استطالت وامتدت زمنًا اضافيًا قد تبيد السنية السياسية اللبنانية على نحو لا رجعة فيه.
لهذا بدا لاغتيال الحريري وقع يشبه وقع اغتيال الكيان. ولهذا سلم عمر كرامي اوراقه وخرج من جلسة المجلس النيابي مستقيلًا. ولهذا كان لا بد له ان يعود ويقبل التكليف ولو تحت قيادة شيعية هذه المرة. فالمظاهرة التي اخرجته ايضًا كان قائدها الأبرز جثمان الحريري، اما المظاهرة التي اعادته فكانت تعبر عن قلة حول وحيلة السنية السياسية على نحو لافت ومريع.
اغتيل الزعيم السني الأبرز فخفت وهج الطائفة وصار مقبولًا لعمر كرامي ان يأتي على حصان حسن نصرالله، لأنه كان يعرف ان الوقت هو وقت نجاة وليس وقت صناعة زعامات.
اليوم يستعد السيد عمر كرامي للتنحي عن تشكيل الحكومة الجديدة. لكنه يتنحى بعدما الغى مظاهرة كانت ستزيد من وزنه في الشارع في طرابلس. لم يعد ذلك مهمًا بالنسبة له، فثمة في المظاهرة المليونية الأخيرة في 14 آذار(مارس) الفائت ما يوحي ان البيت السني قيد الترتيب، وان السنية السياسية لن تقاد بعد اليوم بواسطة الترجمان في المعارضة وفي الموالاة. حيث وليد جنبلاط يلعب دور الناطق باسم سنية سياسية ما وحسن نصرالله يلعب دورًا مماثلًا في الجهة الأخرى. والحق ان ترتيب البيت السني الذي باشرته النائبة بهية الحريري واستكمله الرئيس الحص وتجاوب معه عمر كرامي إلى حد بعيد هو اول بشائر خلاص لبنان من القيد الثقيل الذي احكمت الإدارة السورية طوقه على عنق اللبنانيين.
التعليقات