ثغرات لبنانية أدت للهيمنة السورية
رجال سورية في لبنان
بلال خبيز من بيروت: لا ينحصر رجال سورية في لبنان في الأسماء التي تم تناولها والبحث في تاريخها. ثمة رجال كثيرون لعبوا ادواراً مختلفة ومتباينة الأهمية، وثمة آخرون انتهت مدة خدماتهم لدى الإدارة السورية. وثمة قوى سياسية والت سورية وشكلت فزاعة اهلية امام كل اعتراض عليها. يمكن القول اليوم في لبنان ان الهيمنة السورية العسكرية والمخابراتية في طريقها إلى الانحسار والانسحاب من لبنان. لكن تعقيدات الوضع اللبناني قد تتيح في المقبل من الأيام عودة النفوذ السوري إلى لبنان في شكل او آخر. كانت غاية هذا الملف ان يلم ببعض تفاصيل العلاقات الشائكة بين لبنان وسورية. لا ان يجزم ان الهيمنة السورية قد انتهت في لبنان مرة واحدة والى الابد. وتبدو مأساة البلد الكبرى انه لا يحسن اقامة علاقات عادية وطيبة مع جيرانه. دائماً ثمة حماسة في العلاقات الخارجية لا يبررها المنطق وان كانت التوازنات الداخلية تبررها من دون شك. اللبنانيون يعادون بقوة ويحالفون من دون حدود. لكن هذه التحالفات والعداوات لا تمر على البلد من دون ارجحية طوائف وقوى على أخرى واخلال فادح في موازين التنوع والتعدد الذي يتغنى به اللبنانيون.
عمر كرامي:
*السوري حاكمًا..المعارض محكومًا(1)
*السنية السياسية في ميزان لبنان(2)
اخرج اللبنانيون اسرائيل من الأرض التي احتلتها. هذا نصر مشهود لهم، لكنهم يحتاجون إلى قدر كبير من التحوط والعناية وتحديد سقف المحرمات والممنوعات على المستوى الوطني ليتسنى لهم المحافظة على هذا النصر. النصر اللبناني على اسرائيل مشرف ومشرق من دون شك، لكن اللبنانيين لم يهزموا اسرائيل هزيمة نهائية ومرة واحدة وإلى الأبد. يحقق هذا النصر كل مفاعيله الوطنية في لبنان حين تخرج اسرائيل من متن الوطنية اللبنانية مرة واحدة والى الأبد. وهذا يحتاج، في مقدم ما يحتاج إليه، ميثاقاً وطنياً جدياً ومتوازناً، والذي من شروطه الأساسية ان لا يغلب فئة على فئة أخرى وان لا يتيح هيمنة طائفة او تحالف طائفي على طائفة أخرى. في التاريخ اللبناني القريب ليس ثمة ما يطمئن على هذا الصعيد. ليس ثمة في تاريخ البلد ما يجعلنا نأمن إلى وطنية لبنانية حاسمة تجدد اعصاب مناعته في وجه التدخلات الخارجية.
يجدر بنا التذكير ان الجيش السوري دخل اول مرة إلى لبنان لنصرة المسيحيين في حربهم ضد ما كان يدعى يومذاك بالحركة الوطنية اللبنانية. لكن التوازنات انقلبت وعاد المسيحيون ليقاتلوا سورية التي حالفها المسلمون بعد عداوة. كذلك كان الأمر عام 1987 تاريخ الدخول السوري المتاخر إلى لبنان. يومذاك كان حزب الله في رأس قائمة المتضررين من الدخول السوري. وبعد هذا الزمن بقليل وفي اواخر العام 1989 نظّمت حركة امل الشيعية حليفة سورية يومذاك حرباً طاحنة ضد حزب الله تكللت بالفشل الذريع. لكن حزب الله لم يستمر متضرراً من سورية وهيمنتها. عقد معها الصلات وتقاطعت المصالح، وتحول مع الأيام إلى نقطة ارتكازها الأبرز والأهم في لبنان. الأمثلة على هذا التقلب لا تحصى ولا تعد. وهي مرشحة للاستمرار في المقبل من الايام. وفي ظل الهيمنة الجديدة التي ترخي بظلالها منذ اليوم على لبنان.
رجال سورية في لبنان كان يمكن ان يكونوا رجال غيرها ايضاً. التبعية للخارج شأن لبناني بامتياز. هذا لا يطرح على وطنية شائكة كالوطنية اللبنانية استحضار تهم جاهزة من قبيل العمالة والخيانة الوطنية. قد يكون هذا الامر شأن من شؤون غلاة ومتحمسي المعارضات اللبنانية، لكنه لا يستقيم مع التاريخ اللبناني منذ الاستقلال الأول وحتى اليوم. ففي صدر الاستقلال ذهب بعض النواب والسياسيين المتحمسين إلى الطلب من الحكومة الاستقلالية بزعامة رياض الصلح محاكمة اميل اده، وهو الرئيس الذي عينته سلطات الانتداب رئيساً للجمهورية اللبنانية بعد اعتقال الرئيس المنتخب بشارة الخوري وحكومته. لكن رياض الصلح المتعقل والمدرك للتوازنات الداخلية رفض الطلب رفضاً قاطعاً، فإميل اده يمثل تياراً وازناً وحجته وجيهة. ذلك ان الاستقلال اللبناني دائماً يحتاج إلى تبريرات وحجج تساق في صالح تحقيقه. لهذا لا يصح في لبنان اطلاق تهمة العمالة وتخوين الذين يتعاونون مع الاجنبي. لكن ذلك لا يعفينا من ملاحظة ان هؤلاء اخطأوا خطيئات كبرى في حق البلد ووحدته الوطنية وينبغي على اللبنانيين ان يحاسبوا على الخطيئات لا على الخيانات.
لا شك ان القوى السياسية والطائفية في لبنان تنقسم إلى صفين حاشدين صف يقول بعروبة البلد ويتساهل مع التدخل العربي فيه حتى حين يكون على شاكلة التدخل السوري السافر، وصف آخر يقول بارتباط لبنان الوثيق بالعام الغربي ويتساهل مع التدخلات الاجنبية والغربية فيه. وكلا الاتجاهين يخطئان خطايا مميتة في حق البلد واستقراره وسيادته على اراضيه. لهذا يبدو من المهم ان يطرح المرء اليوم التساؤل الآتي: كيف يمكن للبنانيين الذين عانوا من نير الهيمنة السورية الظالم طوال ثلاثين عاماً ان يحولوا دون الدعوة إلى هيمنة أخرى؟ ثم كيف يحصنون انفسهم وبلدهم من عودة الهيمنة السورية إلى لبنان بطريقة او بأخرى؟
الإجابة عن هذه التساؤلات ليست يسيرة مثلما يظن البعض. والحق ان اتفاق 17 ايار الذي يحذر منه اليوم حزب الله، كان اتفاقاً يقضي بوضع مراكز مراقبة اسرائيلية على الجبال اللبنانية في مواجهة سورية، مثلما قضى اتفاق الطائف ان تكون هذه المراكز سورية. اليوم تلوح امام اللبنانيين فرصة تاريخية في منع اي كان من احتلال جبالهم، والسيطرة الكاملة على جبالهم بقواهم الذاتية، مثلما ينبغي ان يسيطروا على حدودهم على النحو نفسه.
الانقسام اللبناني الحاصل اليوم حيال الموقف من سورية يمكن تلخيصه باجتماع سني - درزي - مسيحي حاشد يدعو لزوال الهيمنة السورية وكشف الحقائق في مسألة اغتيال الحريري وفي ما جرى قبلها وبعدها. وثمة صف آخر حاشد في وسط الطائفة الشيعية مع بعض الملحقات من الطوائف الأخرى ويتزعمه حزب الله يدعو للتنبه من مفاعيل القرار 1559 بوصفه اداة لهيمنة اميريكة فرنسية مشتركة قد تفتح الباب واسعاً لاسرائيل للتدخل في الشؤون اللبنانية. ومثلما لا يخفى فإن التوازن العام يدعو إلى زوال الهيمنة السورية على نحو قاطع، لأن ائتلاف الطوائف المعارض لسورية يؤمن نصاباً كاملاً للحكم رغم حشد المعارضة. لكن الخفة في هذا الموضوع قد تكون وخيمة العواقب. اذ ينبغي ان نلاحظ ان الطائفة الشيعية على المستوى الديموغرافي والجغرافي تتحكم باكثر من 80 بالمئة من حدود لبنان مع سورية واسرائيل، وهذا يجعلها وازنة ومقررة في اي تطبيع او عداوة مع اسرائيل على المستوى الشعبي، قبل ان يكون على المستوى الرسمي. مثلما يجعلها نافذة للتدخلات السورية في الشأن اللبناني مرة اخرى ما لم يتجدد الميثاق الوطني ويحسم مرة واحدة ونهائية لبنانية لبنان وسيادته واستقلاله وعلاقاته المتوازنة مع جيرانه، والأهم من هذا كله امتناع الطوائف المحلية عن تطلب الهيمنة والسعي إليها بأدوات خارجية وداخلية.
ذلك لا يعفي اللبنانيين حقاً من ضرورة الاخذ في اعتبارهم موارد كل طائفة على حدة. فالطوائف ليست اعداداً ولا تتقوى بالأسباب البيولوجية فقط بل بالموارد التي تملكها وتستطيع ان تحاجج عبرها بوصفها ضرورة ملحة للبلد ولا يمكن الاستغناء عنها في الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع من دون تفضيل صعيد على آخر.
التعليقات