بمناسبة مرور عشر سنوات على انتحار الكاتبة و أستاذة الأدب الروسي في كلية اللغات ndash; جامعة بغداد، الدكتورة حياة شرارة و ابنتها مها

بلقيس شرارة من لندن: مرّ عقد كان أول يوم من شهر آب عام 1997، يوماً محرقاً بحرارته عندما غادرت حياة شرارة بغداد إلى الأبد، كان يوماً هزّ كياننا و قيمنا، و أحرقتنا شمس الفراق بحرارتها، و لم تخلف إلا الشهقة و اللوعة في استيعاب هول الخسارة. كانت خسارة انعكست ظلالها على محبيها و شملت حتى تلامذتها، فوضعوا لافتة حداد في مدخل كلية الآداب، معبرين بها عن عمق الفقدان الذي سببه رحيلها عنهم. لم نكن نعلم برحيل laquo;حياةraquo; عنا ذلك اليوم حتى المساء، عندما لفنا الليل بعتمته، و جمعنا زوجي رفعة الجادرجي في غرفة تطل على نهر التايمز في لندن، و قال لنا موجهنا كلامه لي و لشقيقتي مريم و زوجها جيم:
لقد جمعتكم هذا المساء لأخبركم بخبر مؤلم جداً بالنسبة لي و لكم، و توقف لحظة عن الكلام، ساد صمت غريب، آذان صاغية، عيون محدقة، ما الذي سيقوله لنا! بلع رفعة لعابه، و نحن بالانتظار!! احتبست الكلمات بين شفتيه، شعرت بمعاناته، أحسست أنه يحمل عبئاً ثقيلاً، لا يدري كيف يتخلص منه!! طال الصمت، و نحن لا زلنا آذاناً صامتةً و عيوناً محدقة، ثم أردف قائلاً بجرأة: توفيت laquo;حياةraquo; هذا اليوم، ساد الصمت ثانية و هيمن الوجوم علينا، انفلتت كلمتان من بين شفتيّ: سكتة قلبية؟ لم يرد عليّ، توقف قليلا متنهداً بعمق، ثم استرسل في إكمال جملته، لقد أنهت حياتها!! كما أنهت ابنتها مها حياتها أيضاً!!
و لماذا و كأن قنبلة حارقة سقطت بيننا، و انقلبت إلى صراخ من الأسئلة الحائرة، كيف و لِمَ انتحرتا؟ صمت رفعة عن الكلام ثانية، شعرت بالاختناق، و انهالت الدموع من عيني، و أنا أصرخ لماذا؟ بين الدموع المتدفقة، أجاب رفعة: لا ندري!! ثم رفع سماعة التلفون و فاجأني عندما قال لأخي إبراهيم: هذه بلقيس تكلم معها، تملكتني الحيرة، لا أدري كيف أفاتحه بهذا الخبر المفجع! انه بعيد عنا في بيروت. سيطرتُ على أعصابي، و سمعت صوتي يردد: لا ادري كيف أخبرك يا إبراهيم بالفاجعة التي حلت بنا... لقد فقدنا laquo;حياةraquo;!! ساد حاجز من الصمت الرهيب بيننا، لم ينبس بكلمة، فأضفت و كأن صمته شجعني على الاستمرار، كما فقدنا ابنتها مها!! لم اسمع إلا صدى كلماته، يردد: نكبة، نكبة، نكبة! و انفجرت باكية بأعلى صوتي، نعم إنها نكبة حلت بعائلتنا، سحبت أختي مريم بسرعة خاطفة التلفون من يدي، واستمرت في الكلام و أنا أصرخ و أتساءل و الدموع تنساب من عيني لِمَ مها؟ لا زالت مها، زهرة في عنفوان شبابها، إنها روح الربيع المتفتح، و غصن غض أجتث قبل أوانه!! لِمَ احترقت و تلاشت بهذه السرعة؟! لما انطفأت جذوة الحياة فجأة؟! أهذا مصير شابة في مقتبل العمر؟
عوت رياح الجزع في داخلي، و تمطت الأفكار السوداء بفحيحها تلتهم ما تبقى من مساحاته، أسائل نفسي في ذلك الليل الطويل و أرد عليها: ما الذي حدث laquo;لحياةraquo; لتقدم على إنهاء حياتها؟ ما الذي حدث لتلك الروح المتطلعة إلى المستقبل و لِمَ تمزقت أحلامها و تلاشت إلى الأبد!!
مرّ طيف من صور حملتها معي في غربتي، حديقة دارها التي كنا نشرب الشاي بها تحت شجر التفاح و عريش العنب، تطوقنا رائحة الأزهار، و زقزقة العصافير عندما تأوي في المساء إلى حديقة الدار، الدار التي خلت من أهلها، و خيم الصمت عليها في ذلك اليوم، و طأطأت الأشجار رؤوسها و انحنت الأوراد مودعة نعشيهما.
مرّ عقد على تلك الليلة، التي ظلت الأسئلة تدور في ذهني حتى انبلاج الفجر، أسائل نفسي لماذا؟ و لِمَ؟ و في الصباح مسكت القلم محاولة تخفيف الجرح الذي أحدثته مأساة وفاتها، و كتبت تعزية عنها، كانت هي المرة الأولى التي أكتب بها، فقد كانت السبب في أن تتفجر عواطفي الملتهبة و لم أجد في تخفيفها إلا بالكتابة.
مرّ عقد انهارت خلاله استبدادية الحاكم المطلق في العراق، الذي كان سبباً في جعل حياتها و حياة أهل العراق مسلسلاً من الخوف و الرعب، الذي صورت بعض فصوله في روايتها (إذا الأيام أغسقت). و بثت ما في أعماقها من وجع و جزع و خوف على صفحات الورق الأبيض، فبرزت فصولاً من الرعب الذي اجتاح العراق.
جلسنا بعد سنوات في الغرفة نفسها، الغرفة المطلة على نهر التايمز، نشاهد من خلال التلفاز، الجماهير في بغداد وهي تضرب رأس تمثال الطاغية الذي شوه نفسية شعب بكامله، بالترهيب و الحرمان و العنف و القتل. لم نكن نتصور أننا سنشاهد في يوم ما سقوط ذلك الطاغية، و نهاية حكمه، تمنيت أن تكون laquo;حياةraquo; بيننا في تلك اللحظة لتفرح كما فرحنا.
و لكن ما أقصر تلك الفرحة، التي لم تطل إلا بضع ساعات، حتى بدأت بغداد تنزف أمام أعيننا، و تستباح كما استباحها هولاكو منذ سبعة قرون و نصف!! فكسرت و نهبت آثار متاحفها و دمر تراثها، و اندلعت ألسنة النار في مكتباتها و أحرقت وثائق الدوائر و المؤسسات، و كأن التاريخ يعيد نفسه عندما دمرت مكتبة دار الحكمة في بغداد منذ قرون!!
لكن رغم استباحة بغداد، ظل الناس مستبشرين، فقد تخلصوا من الكابوس الذي كان جاثماً على صدورهم، خانقاً آمالهم و أحلامهم. و انطلقت في العراق عشرات الصحف و الأحزاب، و انعقدت المؤتمرات، بأنواعها و أشكالها، و ظهرت شخصيات و وجوه جديدة على المسرح، بعد انهيار عرش صدام، و لكن ظهرت أيضاً عروش جديدة بأسماء جديدة، و انقلبت بعضها إلى إثارة النعرة الطائفية و العرقية و إلاثنية و العشائرية، فاستبدلت الموجة الشمولية بموجة أصولية، من خلال الفضائيات و الإذاعات و الصحف. لقد حسبنا أن الطائفية و العرقية و العشائرية قد انمحت في عراقنا الذي نشأنا و ترعرعنا فيه! فلن تعرف laquo;حياةraquo; عراق اليوم، فهو عراق بعيد، غريب عن أفكارها و تطلعاتها التي ناضلت من أجلها طيلة حياتها. إذ أن العقلية التي تكمن خلفها هي عقلية صدام حسين المتأصلة في استئصال الآخر. فالتسويات و التنازل يعنيان الخسارة. و أصبح الدين سلعة يباع في المزاد، يزايد عليه رجال مليشيات ملثمة الوجوه، انبعثت و تكاثرت و استشرت كما يستشري السرطان في الجسم العليل. يقتلون باسم الدين على الهوية كما كان يقتل صدام حسين باسم البعث و القومية العربية. أصبح عراق اليوم نقطة جذب لجميع أفكار التطرف التي تتواجد بمسميات جديدة، مدعمة و ممولة من قبل بعض الدول العربية و الإسلامية. و أصبح القتل و الذبح و الخطف على الهوية شيء طبيعي في العهد الجديد.!!
مرّ عقد و العراق يمر في مآسي متواصلة، فالعلم يحارب بقتل أساتذته وأطبائه و طلبته وعلمائه و خبرائه. و استشرت هجرة العقول من العراق و أصبحت آفة لا يمكن التغلب عليها، تلتهم العقول و الضمير. مرّ عقد غلب عليه الحزن فأذاب الفرح، عقد لفه دخان الرعب بجناحيه، و الناس حيرى يتطلعون إلى السماء علها تشرق شمس الأمان في مدينتهم بغداد.
لا أدري كيف أختصر عقداً كاملاً و laquo;حياةraquo; تحت حفنة من التراب في عتمة القبر الضارية. كنت أتمنى زيارة قبرها بعد سقوط الحاكم الذي كان سبباً في نهايتها المحزنة، زيارة مدينة بغداد التي أحبتها و لم تفارقها!! مدينة بترت أوصالها و قطعت شرايينها، و هُجّر أهلها، و أغرقت في شلال من الدم!! داكن، قاتم، هو الواقع الذي يعيشه الناس، و لا أدري متى يعود العراق إلى شاطئ الأمان!! فأهل العراق لا زالوا في الانتظار...

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف يسبب ملاحقة قانونية