&"لقد قادنا دورفمان، مثل دانتي، إلى أعماق جحيم بلاده" (الكاتب البريطاني جون بيرغر)
&
عن دائرة الثقافة والاعلام في إمارة الشارقة، دولة الإمارات العربية المتحدة، صدرت مسرحية «الأرامل» للكاتب التشيلي، الأرجنتيني الأصل أرييل دورفمان ترجمة وتقديم علي كامل. وقد سبق للمترجم أن ترجم له مسرحيته الشهيرة «الموت والعذراء» التي صدرت عام ٢٠٠٥ عن دار المدى. "الأرامل" دراما مأساوية ذات نكهة سياسية تجري أحداثها في بلد تحكمه طغمة عسكرية مستبدة. فالنساء اللواتي سيلتقي بهن القارىء والمشاهد في هذه الدراما هن مزارعات فقدن أبنائهن وأزواجهن وآبائهن ما بين أتون الحرب الأهلية التي أشعلتها السلطة لتصفية خصومها، وبين زنازينها السياسية سيئة الصيت، تلك التي لم يخرج أحد منها حياً. إن نمط هذه الدراما هو أقرب إلى نمط التراجيديا اليونانية في دلالاتها وتكوينها البصري. فمواجهة الأرامل للسلطة هنا يكاد يتماهى وفجيعة «نساء طروادة».لقد تضمنت هذه الدراما القوة الأخلاقية المتدفقة لمسرحية «الأم شجاعة» والإحساس الشعري والملحمي لمسرحية «بيت برنارد ألبا». بعد الإطاحة بحكومة سلفادور أليندي واستيلاء الجنرال أوغيستو بينوتشيه على زمام السلطة عام 1973 اضطر دورفمان إلى مغادرة بلاده تشيلي. حينها ظل يجوب البلدان ريثما اسّتقر به المقام عام 1976 في هولندا. وهناك في أمستردام ابتدأ مخاض فكرة "الأرامل".
كان الكاتب حينها يشتغل على مجموعة من القصائدالموجعة والمقلقة، قصائد تتحدث عن رجال ونساء فقدوا أو اختطفوا من بيوتهم في هدأة الليل من قبل البوليس السري ولم يسمع أحدٌ عنهم ثانية مطلقاً، حيث رفضت السلطات يومها تسليم جثثهم إلى أهلهم أو أقاربهم، وكأن لم يكن لهم وجود من قبل على الأطلاق. يقول دورفمان:«في وقت مبكر من إحدى الليالي، وبعد فترة الغداء تماماً، زارني طيف ما، شيء ما يشبه الهلوسة أو الهذيان تقريباً: (ثمة أمرأة عجوز تجلس قرب النهر، تمسك بذراع منفصلة عن جسد، قذفت بها المياه تواً نحو الشاطىء). يقيناً أن مشهداً كهذا كان قد حدث كثيراً من قبل، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يجلب فيها هذا النهر جثة رجل ميت ليلقي بها بين ذراعي هذه العجوز ذات الجسد المحّني.&
لقد أعدّتُ كتابة تلك القصيدة مرات عديدة طوال تلك الليلة، محاولاً سماع نبرات صوت تلك المرأة التي ابتكرتها أنا والتي هي، رغم ذلك، بدت كما لو أنها تمتلك وجودها المستقل، الخاص بها. وعند الفجر، وما يشبه ميلاد طفل، انطلقت صرخة، وولدتْ القصيدة. وهكذا أصبح للعجوز حضوراً ووجوداً وصوتاً وأصبحت حرة تطوف بقاع الأرض وهي تنشد كلماتها من خلال تلك القصيدة».وفيما السنوات تمضي، لم يستطع دورفمان أن يتخلص من حقيقة أن حكايتها كانت بحاجة إلى الكثير قياساً بما كتبه، وإن ما فعلهُ في القصيدة لم يكن سوى خدش للسطح الخارجي لمصدر الألم عبر إصرارها العنيد في أن لا تدع ذلك القائد العسكري يقوم بدفن الجثة، إنما أرادت منه أن تجعل الكاتب يغوص عميقاً و أن يعرف العالم أيضاً ما حدث من قبل وما بعد.&
لقد أرادت، باختصار، أن تُروى حكايتها في الوقت المحّدد، وأن تشغل العالم وتملأه. لقد سعت تلك العجوز إلى أن تعرف مصيرها الحتمي، ولن تستريح ما لم يمنحها الكاتب إياه. وهكذا وفي يوم غير محّدد من صيف عام 1978 ابتدأ دورفمان في كتابة تلك الرواية والتي أسماها منذ البدء "الأرامل". يقول الكاتب:«كنت مهووساً بها لدرجة لم أستطع حتى أن أرفع عيني عن الصفحة التي كانت تأخذني بعيداً إلى جحيم تلك الأرامل اللواتي كن ينتظرن عودة الغائبين عند ضفة النهر». حين أكمل دورفمان إنجاز المخطوطة قرر أن يضع اسم مؤلف دنماركي مفترض بدل اسمه الصريح كي تصل نسخ الرواية إلى تشيلي والأرجنتين وإسبانيا. لكنه عدل في الآخر عن رأيه وتجنب مكيدة الاختفاء خلف اسم مفترض ونشر الرواية باسمه الصريح بعد أن جعل من اليونان مكاناً لمجرى الأحداث.
في أحد الأيام من عام 1985 تلقى دورفمان اتصالاً تلفونياً من "منتدى مسرح مارك تيبر" في لوس أنجلوس، حيث حصلوا على نسخة من الرواية من صديقته الكاتبة الأمريكية دينا ميتزجر التي كانت تصّر على أن الرواية تصرخ بصوت عالٍ وتريد أن تتحول إلى مسرحية أو فيلم!. يقول دورفمان:«لكي تروي قصة، لا يكفي أن تتعامل معها تقليدياً وتأريخياً على أنها فقط هي نتاج معاناة بشر حقيقيين، بل ينبغي أن يتزامن ذلك وخضوعها للقوانين الجمالية والأدبية لنوع العمل الابداعي، وهذا ما واجهته لاحقاً، حين أُريد للرواية أن تتحول إلى نص مسرحي. أحسست حينها كما لو أن المرأة العجوز التي تسكن أعماقي قد استجابت لهذا المقترح وأرادت أن يتعرف الكثير من الناس على حياتها، ليشهدوا كيف أنها وقفت بشجاعة بوجه الموت ولم تدعه يستبد بتلك الحياة أكثر. لقد أرادت أن تحيا ثانية، ولكن على خشبة المسرح هذه المرة. وهكذا ابتدأت واحدة من أطول أوديسيات حياتي الإبداعية عذاباً. لقد تطلبت مني القصيدة ليلة واحدة لتتشكل، والرواية عاماً كاملاً، أما المسرحية، فقد ظلت تعذبّني عشرة أعوام تقريباً».على الرغم من أن الأحداث تجري في أحد بلدان أمريكا اللاتينية، إلا إن الخطاب السياسي للمسرحية يكاد يسري على العديد من البلدان التي لا زالت تعاني حتى يومنا هذا منالانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. إنها بمثابة تذكير مؤّثر بتلك الانتهاكات الفظيعة التي غالباً ما تمر بشكل عابر دون أن يلحظها أحد في هذا العالم.&
تجري أحداث هذه المسرحية على ضفاف نهر قرية مزقتها الحرب، وتتحدث عن جمع من النساء ينتظرن بيأس عودة آبائهن وأزواجهن وأبنائهن الذين أُخذوا أسرى من قبل رجال السلطة وزجوا في زنازينها بدعوى التمرد والاحتجاج ضد السلطات في القرية. الجدة صوفيا فوينتيس، الشخصية المحورية في هذه الدراما، هي الأكثر تضرراً من بقية نساء القرية، فقد فقدت والدها وزوجها وإثنين من أبنائها. إنها تذكرنا بالأم شجاعة عند بريخت. صوفيا فوينتيس هي المحرك الحيوي لأحداث هذه الدراما، فهي من سيؤجج الصراع ويشعل فتيل المواجهة بين أرامل القرية ورجال السلطة. على الرغم من أن الجميع يظن أنها ساحرة أو مجنونة بسبب انتظارها الطويل وغير المجدي عند ضفة النهر بانتظار عودة الغائبين. إلا إن دعواتها كما يبدو يستجاب لها حين تطفو جثة رجل مشوه عند حافة النهر فتصرخ العجوز بأنها جثة والدها ؤرن عليها القيام بدفنها إلى جانب قبر والدتها. حين يتناهى خبر الجثة لأسماع القائد العسكري في المنطقة وإصرار العجوز على دفنها يصيبه القلق خشية أن تثار أسئلة بشأن هويتها وسبب الوفاة، يتم حرقها سراً من قبل الضابط دون علم القائد. وحين تظهر الجثة الأخرى، تطالب العجوز بها أيضاً بدعوى أنها جثة زوجها مصرة على دفنه. يضطر القائد إزاء وضع كهذا إلى القيام بنوع من التسوية محاولاً تهدئتهن موعداً إياهن بإرجاع رجالهن جميعاً شرط أن لا يثرن الفوضى. في لقاءه معهن يحضر الجثة ويطلب من كل واحدة منهن التعرف عليها. لكن، على الرغم من صعوبة التعرف على هوية الجثة بسبب التشويهات التي أحدثها التعذيب، إلا إن كل واحدة منهن تعلن عن أحقيتها بعائدية الجثة مطالبن جميعاً بدفنها كنوع من الاحتجاج ضد رفض وتسويف السلطات في الإجابة على تساؤلاتهن بشأن مصير ومكان رجالهن. هنا تبدأ لعبة شد الحبل بين مطلب النساء لدفن الجثة ورفض العسكر لهذا المطلب. وهدفاً في تضييق الخناق على العجوز للتراجع عن موقفها يتم خطف حفيدها الصغير ألكسيس ليستخدم كصفقة، إلا إن الجدة تصر على موقفها ليس فقط في دفن الجثة> إنما مواصلة السؤال عن مصير الرجال المختفين، الأمر الذي يدعو الضابط إلى حسم الأمر بقتل الطفل والجدة معاً. يتفجر الموقف وتخرج نساء القرية جميعاً للاحتجاج عند ضفة النهر. يهب الجند بالمقابل إلى النهر وهم مدججون بأسلحتهم.&
تُختتم الدراما بمشهد المواجهة غير المتكافئة. النساء يقفن عند ضفة النهر يقابلهن الجند في الجانب الآخر موجهين نحوهن أسلحتهم. ينزلن إلى النهر ثم يظهرن ثانية وهن يحملن جثة أخرى تطفو فوق الماء. تُسمع فجأة صرخة قوية لطائر الشحرور. تتجه أنظار الجميع إلى الأعلى نحو مصدر الصوت. يتقدم العسكر نحو النهر لإخلاء المكان بالقوة. تتقدم النسوة نحو الجند بشكل راقص ينشدن أغنية ويهدهدن الجثة كما ما لو أنها طفل ولد تواً. يقول دورفمان: «لقد أوحيَ لي أن الجثث سوف تبدأ بالظهور، وأن لا أحد يستطيع منع الموتى من العودة إلى بيوتهم، وما إعادتهم ثانية عنوة من قبل النسوة، إلا بمثابة نوع من المقاومة المجازية ضد الصمت والظلم».&
&
















التعليقات