&
&
قارئ رواية "عين الشرق" للكاتب والإعلامي السوري إبراهيم الجبين، التي صدرت حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، سيفاجأ بحجم التفاصيل المتعلقة بالتيارات الفكرية التي تصارعت في سوريا خلال تاريخها القديم والمعاصر والتي يحاول الجبين رصدها بعين الروائي والخبير وربما برغبة الوقوف على الأطلال بعدما دفعت المأساة السورية معظم الروائيين الى أوروبا ودول الجوار بعيدا عن العاصمة دمشق ليحملوا ذكرياتهم وأفكارهم وأقلامهم.
وفي رواية عدد صفحاتها 360 صفحة من القطع المتوسط، رسم غلافها الفنان السوري المعارض يوسف عبدلكي، يحاول الجبين مطاردة الشخوص التي حملت تلك المذاهب والأفكار من خلال ما سمّاه استيطاناً وغزواً لمدينة دمشق.
فمن الرومان ممثلين بالإمبراطور يوليان الذي منح دمشق اسمها "عين الشرق"، إلى التوراتية التي يستهل بها الجبين روايته، من خلال آية من سفر إشعيا وضعها على الصفحة الأولى "وحيٌ من جهة دمشق. هُوَ ذا دمشقُ تُزالُ من بين المدن، وتصبح رجمة رَدْمٍ"، إلى تتبع آثار خطى اليهود الشرقيين وعذاباتهم في الماضي والحاضر على حد سواء، وهم بين فكي كماشة، اليهودية الأوروبية التي لا تعيرهم أي اهتمام، من جهة. والعرب المسلمين الذي يصنفونهم على أنهم تابعون تلقائياً للصهيونية والاتجاه الذي تسير وفقه إسرائيل.
ومن هنا كان استحضار الجبين لكل من الياهو ساسون القومي العربي الدمشقي، مؤسس جريدة الحياة، الذي هاجر بعد انهيار الدولة السورية في العشرينات إلى إسرائيل، وتحول هناك إلى جسر بين العرب والإسرائيليين بعد أن انهار حلمه العربي السوري. بالإضافة إلى شموئيل موريه الكاتب العراقي اليهودي المعروف بسامي المعلم، الذي يسرد الجبين حواراته الدائمة معه.
المسيحية التي مثلت دمشق &بالنسبة إليها نقطة انطلاق، ما تزال قائمة في ذاكرة البشرية، تشهد عليها حجارة باب كيسان الذي هرب منه القديس بولس إلى العلم لينقل رسالة المسيح. وتظهر في الرواية كنيسة حنانيا وأصوات مار أفرام الذي كان أحد واضعي الموسيقى الشرقية إضافة إلىمكانته الدينية المقدسة. وكذلك حنا يعقوب عبدلكي الذي أسس في عامودا السورية أول مدرسة سريانية، وعمل على نقد الواقع وأكد على ضرورة الإصلاح الديني في الكنيسة في الجزيرة السورية خلال الثلث الأول من القرن العشرين.
يأتي الإسلام بعد ذلك ممثلاً بطوائفه التي تحارب اليوم للقضاء على بعضها البعض على التراب السوري، ولعل تركيز الجبين على شخصية ابن تيمية في الرواية، وقد صوّره سجيناً في قلعة دمشق، يظهر الأثر الكبير لأفكار من عرف يوماً ما باسم "شيخ الإسلام" والذي اتخذته الطوائف الإسلامية أيقونة للتكفير، بينما يبدو أن للجبين رأياً آخر في هذا المقام، مستنداً إلى أبحاث أوروبية نظرت إلى ابن تيمية كمفكر وفيلسوف أثر لاحقاً على مارتن لوثر.
وصولاً إلى التكوينات الطائفية التي تشكّل سوريا اليوم، السنة والعلويون والدروز والإسماعيليون، التي تظهر في الرواية على شكل شخصيات وبشر لهم حيوات وميول وحوارات. دون أن ينسى الجبين توثيق الهجمات العسكرية الوهابية التي استهدفت دمشق في القرن الثامن عشر، وتمكنت من السيطرة على مدن في الشمال مثل حمص وغيرها. لكنها لم تهيمن على دمشق. إضافة إلى التغييرات الطائفية في شكل ومحتوى دمشق، التي جرت على يد سلطة البعث ونظام حافظ وبشار الأسد.
&
خطاب جديد
تبدو رواية إبراهيم الجبين عملاً توثيقياً حكائياً، ينبني على قوافل البشر الذين قرروا جعل دمشق قبلة لهم، واستقروا بين جنباتها جالبين معهم، على حد تعبير الكاتب، بضائعهم الإنسانية والشيطانية معاً.
يقول إبراهيم الجبين لـ"إيلاف" إن الرواية "نمط مختلف من الكتابة، أو على الأقل، حاولت أن يكون مختلفاً، من خلال هندسة معمارية خاصة تستند إلى الفكري الواسع العريض واليومي البسيط العادي، إضافة إلى الشعري والوثائقي" ويضيف إنه ومن خلال سرد تاريخ مدينة دمشق القديم والراهن، إنما "يشكل قطعأً صغيرة تصنع المشهد السوري بكليته"، المشهد الذي يرينا، حسب الجبين، لماذا وصلت سوريا إلى ما وصلت إليه الآن.
وقد استقبل السوريون ووسائل الإعلام العربية خبر صدور رواية "عين الشرق" بترحيب واسع، ونشرت عنها مقالات في كل من الأهرام والقدس العربي والزمان والرأي العام الكويتية وغيرها، ما يعكس حاجة القارئ العربي لخطاب جديد حول القضية السورية، حتى لو جاء هذا الخطاب من خلال عمل أدبي.
ويقول الناشر ماهر كيالي المدير العام للمؤسسة العربية للدارسات والنشر على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك" إن رواية الجبين "تدور أحداثها في دمشق، وتشكّل إضافة نوعية لمسيرة السرد العربي المعاصر".
&
أبو القعقاع
"عين الشرق" هي الرواية الثانية للكاتب، بعد "يوميات يهودي من دمشق" التي منعت في سوريا زمن صدورها في العام 2007، وكانت تتحدث عن مدينة دمشق أيضاً.
&لكن الجبين تناول فيها ملفي يهود دمشق وتنظيم القاعدة في بلاد الشام ورموزه الذين كان بعضهم أبطالاً للرواية. ويذكر أن قناة الجزيرة الفضائية كانت قد أنتجت فيلماً وثائقياً عن إحدى شخصيات الجبين التي لعبت دوراً هاماً في روايته الأولى، "أبو القعقاع السوري" الذي تحدث الجبين في الفيلم عن العلاقة التي ربطته بزعيم تنظيم "الغرباء" مؤكداً على صلته بالمخابرات السورية التي كانت تسهل له تهريب المجاهدين إلى العراق عبر الحدود السورية. لتشكيل ما عرف لاحقاً باسم "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش".
&
تحليل للمعارضة
لم يفوّت الروائي فرصة تحليل حالة الأحزاب السورية المعارضة، على لسان شخصياته، يقول الجبين لـ"إيلاف" إن "الحركات السياسية التي خرجت في نصف القرن الماضي، كانت غالبيتها تقوم على فهم مترفّع على المجتمع وعلى طبائع الشعب السوري، وكانت تؤمن بأن التغيير يجب أن يحصل من الأعلى، وتجاهلت دورها التنويري، بل هربت منه. وبالتالي فقد مهّدت تلك الحركات وشرعنت وجود الاستبداد الذي طبق ذلك التغيير على طريقته، ووفقاً لمصالحه المافيوية".
من هنا يتهم الجبين النخب السورية والتي وصفها بالمزيفة، بأنها تواطأت مع الاستبداد، من عرف منها أو لم يعرف، و"نظرت إلى السوريين على أنهم سيول من البشر البدائيين الجائعين إلى الجنس والمال والطعام، وفي أحسن الأحوال رأتهم كجوعى يتوقون إلى حكم ديني يطبق الشريعة"، مع أن هذا ليس صحيحاً، على حد قول الجبين، الذي يضيف "إن ما جعل هذه النخب المزيفة قادرة على المباهاة بسوريا، وبغناها الثقافي والحضاري، هو ذلك المجتمع نفسه، المجتمع الذي يتهمه هؤلاء بالجهل والتدهور والبربرية".

أعمال إبراهيم الجبين الروائية تستند غالباً إلى وقائع حقيقية، يقول إنه يمزج بها جانباً من الخيال، ليقدمها بلغة عذبة مباشرة دون لف أو دوران، غير أنها تبقى وثائق عن سوريا ودمشق والمجتمعات السورية المتنوعة التي يكتب عنها الجبين دون أن يشعر القارئ بأنه يكسر أمامه تابوهات ومحرمات طالما هرب منها الكتاب.&