يقدّم المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل في كتابه "العالم والبلدان.. دراسات في الجغرافيا البشرية عند العرب" الصادر من مشروع كلمة، وترجمة الباحث المغربي محمد آيت حنا، وتقديم الشاعر والأكاديمي العراقي المقيم في باريس كاظم جهاد، خلاصة دقيقة ومكثّفة لفهمه لجغرافية البشرية لدار الإسلام منذ منتصف القرن الثامن الميلادي وحتى منتصف القرن الحادي عشر الميلادي.
وجوه ومصادر
غلاف الكتاب |
هذه الجغرافيا التي يرى فيها ميكيل جغرافية بشرية، كلية وأدبيّة. جغرافية نقابل فيها، برفقته، عددًا هائلًا من الوجوه. أمامنا يتحرّك وينطق عبر النّصوص جغرافيّون وخرائطيون وعلماء بالكونيّات وأعضاء سفارات ورحالة وحجاج وتجّار وبحارة وسواهم.
كما نقابل وفرة من المصادر، فالوثائق التي يعتمدها ويحلّلها لا تنحصر في الكتب، بل تشمل أدلة الحجّ والملاحة وتقارير مبعوثين وأقوال تجار وحكايات ملّاحين، عالجها هو باعتبارها شهادات لا على التاريخ الفعلي طبعًا، بل على إرهاصاتِ حقبة معينة، وبالتالي على تاريخ الذهنيات وتحولات المخيلة الجماعيّة.
الكتاب يشكل خلاصة لأطروحة دكتوراه دولة صارت جزءًا أول من سفْر بأربعة أجزاء ضخمة تشكّل بمجموعها أحد أكثر الأعمال الغربيّة امتدادًا عن العرب، حملت العنوان الجامع "الجغرافية البشرية في العالَم الإسلاميّ حتى منتصف القرن الحادي عشر الميلادي"، وتوالى صدورها من 1973 إلى 1988.
ترجمة مكثفة
وبالرغم من كون هذا الكتاب ما برح موضع تداول وانتشار، وقد أعيد طبعه في عهد قريب، قرّر ميكيل أن يعيد سكبه في صيغة مكثّفة، موجّهة إلى الأدباء وعموم القرّاء، صدرت في 2001.
وقد لفت الدكتور كاظم جهاد إلى أنه ليس من السهل اختزال مادّة كتاب يغطّي ألفَي صفحة إلى صيغة جديدة لا تتجاوز مائة صفحة ونيّف. بيد أنّ ميكيل، وبحسّ التكثيف المعهود عنده، نجح في الرّهان. إذ ركّز اختيار موضوعاته، من حيث مقاربة العرب للعالَم، على تصوّرهم للحدود والبحار والجبال والمدن؛ ومن حيث مقاربتهم للبلدان الغريبة أو الأجنبيّة ركّز على ما كتبوه عن الهند والصّين والقسطنطينيّة وروما وبقيّة أوروبّا.
إضافة إلى ذلك أضاف المترجم نص درس ميكيل الافتتاحي في كوليج دو فرانس "نحو إعادة اكتشاف الأدب العربي الكلاسيكي"، وترجمة ثلاث دراسات أخرى تكمل "العالم والبلدان"، تتناول المجتمع العربي بعد القرن الحادي عشر الميلادي وتطورات الجغرافية البشرية المكتوبة بالعربية، فتكمل رؤية الأديب عمل الجغرافيين.
ولادة الوعي
في أول الكتاب ترجمة لنص درس ميكيل الافتتاحي في كوليج دو فرانس "نحو إعادة اكتشاف الأدب العربي الكلاسيكي" أكد فيه أن الاضطرابات التي تهز الوعي العربي منذ القرن التاسع عشر، دافعة إياه إلى التأرجح بين الوفاء إلى القرآن والوفاء إلى التاريخ، تلك الاضطرابات قد استوقفت اللغة العربية نفسها، لا فقط باعتبارها أداة، وإنما بوصفها مرآة يتعرف فيها ذلك الوعي إلى نفسه.
كما بالأمس البعيد إبان العصر العباسي أيام ألفت نفسها للمرة الأولى في مواجهة مباشرة مع العالم، أحست هذه اللغة مرة أخرى بأنها مدعوة إلى أن تبذل جهدًا هائلًا، جهدًا نستطيع اليوم أن نقدر نتائجه. فمن المحيط الأطلسي إلى الشرق الأوسط، عمل التعليم والصحافة والإعلام على نشر الثقافة العالمية أو حتى المعلومة البسيطة، بلغة منفتحة على العالم ومعترف بها باعتبارها كذلك، من طرف الهيئات الدولية، لكنها في الآن نفسه، وعبر قواعدها النحوية والصرفية، التي لم تتغير في جوهرها، تظل شاهدة على الاستمرارية، التي كان جاك بيرك يقارنها بتلك الأرصفة المغمورة بالمياة، والتي يأتي البحر المتجدد دومًا ليضربها.
أكد ميكيل أن الحوار الذي عقده طيلة خمسة وعشرين عامًا مع الجغرافيين العرب قد عمل شيئًا فشيئًا على تعزيز قناعته بأن نصوصهم تستطيع أن تفتح السبيل إلى إحدى زوايا النظر الموسعة التي تبدو حاجة ملحّة إلى الحالة العربية.. وقال: "هنا لا نصادف أي بتر: إذ نكون مدعوين إلى معانقة العالم بكامله، إلى معانقة الفضاء المعني بالمعنى الواسع للكلمة: فضاء الطبيعة وأعمال البشر".
نموذجان للحضارة
تابع "إننا نقارب هذا الفضاء منذ اللحظة التي شهدت نشأته، كما هو، حتى يومنا هذا تقريبًا، بعبارة أدق بين القرنين الثامن والحادي عشر الميلاديين، في العصر الذي ما إن تشكل فيه ذلك الفضاء حتى عمل وعي جمعي على تبنيه ووصفه وتقديمه والتفكير فيه".
استرسل قائلًا "هكذا نكون قد حددنا قياسًا إلى الشعوب الأجنبية التي كانت دار الإسلام آنذاك تعيين اختلافاتها معها: الهند والصين، اللتين ربما كانتا ستشكلان للعربي نموذجين للحضارة لو كان أصابهما حظ الوحي، التركي، ذلك الكيان المبهم الذي قد يكون أخًا أو عدوًا محتملًا، في إطار تاريخ لم يكن سوى مغامرة تنتظر أن تخاض، وأفريقيا القارة التي لم يكد ينبش سطحها، خزان الذهب والعبيد العجيب ذاك، والتي كانت تثير بشكل كان لا يزال محتشمًا التساؤل حول إنسانية متعددة الأشكال".
أضاف "بيزنطة العدو الأول والأخير، التجسيد المشوه والمنحرف لنموذج دولة معروف، تجتاح رؤيته كل شيء حتى المنظر الطبيعي، وأخيرًا البلدان العجيبة التي تقدم بعض بلداننا الأووربية من شرقها إلى غربها، نماذج عنها. وإذ فرغنا من تحديد الميدان علينا أن ننطلق إلى التساؤل حول السماء والأرض والماء التي تشكل هذا الميدان، والنبات الذي ينمو والحيوان الذي يعيش فيه، وأخيرًا الناس الذين يستغلونه ويعملون على تحويله عبر أنشطتهم اليومية وبنائهم الجماعي".
الأدب خارج الاهتمام
إنها إذن نظرة تكشف العلاقات التي أنشأتها الحضارة الإسلامية والعربية مع العالم ومع عالمها الخاص، لكنها نظرة وفقًا لميكيل "لا تصبو إلى مجاوزة النصوص إلا بعد أن تتأسس عليها، تتأسس على لغتها وعلى مواضع صمتها، وأيضًا، وعلى وجه التدقيق، على تجانس المتن، أبيّن، بالمناسبة، أن هؤلاء الجغرافيين العرب يتفقون على مفهوم محدد للفضاء الإسلامي، وعلى تمثيلهم طبقات اجتماعية متوسطة، وعلى إسلام متوسط، وأخيرًا يتفقون على ثقافة متوسطة، ثقافة قلما تهتم بالأدب (أو لربما هي غير قادرة عليه) كما يقال، وبالتالي يضمنون بصفتهم المزدوجة هذه، التدوين المحض والصارم للأفكار والمواقف الشائعة والمنتشرة والحقائق التي يلحظها الجميع".
وأشار ميكيل إلى أن نشوء الجغرافية العربية وتطورها سلك سبيلين: وصف الأرض، على ديدن قدماء الكوسموغرافيين (علماء الكون) والكارتوغرافيين (علماء الخرائط) وعلى رأس القائمة بطليموس، ثم جمع المعطيات المفيدة بالنسبة إلى الإمبراطورية الإسلامية، بمبادرة من البلاط البغدادي: الطرق والمسارات، وجباية الأملاك في المقاطعات، والأوضاع التي تشهدها الحدود.
صار زادًا معرفيًا
هذا عدا أدب آخر خاص بالبلدان الأجنبية نفسها، وكانت تغذيه تقارير البعثات (السفراء) وقصص الأسرى العائدين من القسطنطينية أو البحارة ـ التجار الذين يقصدون الشرق الأقصى. لقد عرف القرن العاشر الميلادي منعطفًا حاسمًا بالنسبة إلى هذه الجغرافية، حيث ظهرت أولى ملامح مشروع جعل دار الإسلام وحدها دون سواها موضوعًا للوصف وعدم تأسيس هذا الوصف على نتائج الماضي ومناهجه، وإنما على الملاحظة الشخصية وعلى التدوين الفوري الحي، اللذين كان يضطلع بهما الجغرافي، وقد صار رحالة، وأخيرًا كان ذلك يتم وفق أدنى حدود متطلبات التحرير (الكتابة) ومع الإشارة هنا وهناك إلى بعض الموضوعات المتداولة سعيًا إلى جعل الأدب معتمدًا عليه ضمن الزاد المعرفي الضروري للأديب.
ورأى ميكيل أنه بفضل وضع الإمبراطورية الإسلامية كملتقى طرق اضطلعت دار الإسلام بمراقبة التبادلات التجارية البرية والبحرية بين أوروبا والمشرق وصولًا إلى الهند والصين وبتشجيعهما وتنظيمها. وهي نفسها (أي دار الإسلام) كانت متعطشة للبضائع الأساسية، سواء بالنسبة إلى المعيش اليومي أو حياة الترف، وبالتالي ألفت نفسها وقد صارت في آن معًا مستهلكًا ووسيطًا، وشهدت تدفق ثروات عظيمة، كانت تسدد مقابلها بالعملة الصعبة التي كانت تحوز منها كميات معتبرة، نقصد عملة الذهب.
ثالوث معرفة المجتمع
وأوضح أن المجتمع توسع ونما تحت راية الإسلام وسلطة الخليفة المباشرة أو المفوضة، ومنح بالتالي مكانة بارزة للمهنة الشريفة التي عضدتها سيرة النبي نفسه: مهنة التاجر، ولا نعني هنا ذلك البائع البسيط الذي يجوب الأسواق، وإنما التاجر الكبير الذي يخوض في تبادلات تجارية بعيدة المدى من الناحية الجغرافية، ذلك التاجر الذي ظلت صورته في مخيلتنا تحمل ملامح السندباد البحري، وإلى جانب التاجر منحت مكانة بارزة للعالم، تحديدًا المتخصص في مجال من المجالات العلمية، وفي المقام الأول المختص بالميدان الديني: قراءة القرآن وتفسيره، والفقه، وسيرة الإسلام زمن نشأته وعصوره الأولى. ثم تأتي مهنة الكاتب المؤتمن عليه في بلاط الخليفة، الذي تقوده ممارسة الكتابة (الوظيفية) وأسلوبها الرفيع، بشكل تلقائي إلى بلوغ مناط الكاتب (المؤلف).
وأكد أن التاجر والعالم والكاتب هو ذا الثالوث الذي يشكل الأساس الذي نتعرف عبره إلى مجتمع ذلك الزمن ويتعرف عبره هو أيضًا إلى نفسه، تصاحبه شخصية أخرى أساسية، وإن كانت تظهر بشكل عرضي، إذ لولاها لما كان لذلك الثالوث أن يكون على ما هو عليه حقًا، نقصد رجل الأدب، الأديب الفعلي: لا الناثر، كاتبًا أم غيره، وإنما الشاعر ذلك الذي كان وحده قادرًا آنذاك على الكلام عن نفسه كذات فردية، على قول "أنا" سواء بمتعة أو بأسى، وليس كما يفرضه قانون النثر، أي شاهدًا على حقيقة أو وضع أو قول أو حدث تاريخي.
التعليقات