أي نوع من البلاد هي سنغافورة؟ إعتاد الغربيون الذين يعيشون فيها أن يُطرح عليهم سؤالان عندما يعودون إلى أوطانهم: "هل يمكنك مضغ علكة هناك؟ هل ضُربت بالعصا؟".
إيلاف: ربما يكون أولئك الأجانب على دراية بـ"ديزني لاند مع عقوبة إعدام"، وهو مقال لاذع كتبه وليام غيبسون في عام 1993، يصور ليون مدينة استهلاكية بلا روح يعمّها قفر سلطوي.
لكن، بالنسبة إلى الدول النامية، تُعتبر سنغافورة نموذجًا يُحتذى به. فهي مستقرة سياسيًا ومستقلّة جيوسياسيًا، يتمتع مواطنوها بمستوى معيشة عالٍ، وبجميع مظاهر الديمقراطية وزخارفها، ولكن ليس أكثر من ذلك.
أما سياسيّو سنغافورة والمدافعون عنها فيعتبرونها إنجازًا ولد بعد مخاض التضحية بالنفس والعمل الدؤوب والتعددية الثقافية الملتزمة (تعكس مباني المساكن الشعبية، حيث يعيش معظم السنغافوريين، البنيةَ العرقية للبلاد: "لا أحياء منفصلة للأقليات في سنغافورة"، بحسب رئيس وزرائها متباهيًا في كلمة ألقاها في العام الماضي).
التاريخ بالرسم
الرسم الكاريكاتوري في خدمة التاريخ |
يعترف منتقدو سنغافورة بأنها حديثة آمنة، تُدار بطريقة جيدة، حققت تقدمًا ماديًا ملحوظًا منذ استقلالها منذ أكثر من 50 عامًا. بينما يقرّ المدافعون عنها بأنها تقيّد الحريات المدنية (لسبب وجيه، من وجهة نظرهم)، وبأنّ تقدمها جعلها تدفع ثمنًا ما، لكنّه قدّم إليها فوائد ما في الوقت نفسه.
ابتكر سوني ليو كتابه "فن شارلي شان هوك تشاي" The Art of Charlie Chan Hock Chye (منشورات بانتيون. 320 صفحة؛ 30 دولارًا و 25 جنيهًا إسترلينيًا) ببراعة، فوازن فيه بين التكاليف المدفوعة والفوائد المكتسبة.
ولا شك في أن مؤلفي الكتب البيانية تركوا بصمة مهمة في السياسة، ومن أكثرهم إثارة للإعجاب مرجان ساترابي عن إيران، وجو ساكو عن فلسطين. وآخر تجربة في القصّ السياسي هي هذا الكتاب من طريق فن الرسم، مستكشفًا تاريخ سنغافورة من خلال مهنة شارلي شان هوك تشاي رسام، الصور الكاريكاتورية الخيالية الذي بدأ في منتصف خمسينيات القرن الماضي عندما كانت سنغافورة بعدُ مستعمرة بريطانية.
هذا الكتاب مؤلفٌ من سلسلة مقابلات مع شارلي، أولها في عام 2010، عندما كان في الثانية والسبعين. وشارلي هذا لطيف وشجاع وقوي الإرادة، ملتزم تعاليم دينه وفخور بذلك. وباقتضاب بارع في الانتباه إلى التفصيلات - حاجب مقوس هنا ورأس منحنٍ هناك - رسمه ليو في شخصية مكتملة تكاد تكون من لحم ودم.
الرمزية في خدمة السياسة
كان أول كتاب فكاهي نشره شارلي حكاية من الخيال العلمي من منتصف القرن الماضي، تدور حوادثها حول ولد وكلبه يكتشفان "روبوتًا" عملاقًا مخبأ في كهف، لكنّ سرعان ما تحوّلت الرواية إلى عمل سياسي. فالصبي وكلبه وجدا نفسيهما متورطين في تظاهرة مناهضة للاستعمار، فهاجمتهما الشرطة البريطانية، لكنّ الروبوت الذي لا يستجيب للأوامر إلا باللغة الصينية تدخّل لينقذهما.
يظهر لي كوان يو، الذي أسس حزب العمل الشعبي في عام 1954، وفاز بمقعد برلماني أول مرة في عام 1955، في بواكير أعمال شان هوك تشاي في "الغزو". فالسلسلة تُصوّر الإنسانية في ظل سيادة كائنات فضائية اسمها "الهيغيمونز" (أي القوى المهيمنة).
كوان يو هو المحامي الذي يطالب بالحكم الذاتي للإنسان ويتحدث اللغة الهيغيمونية بطلاقة ("الغزو" هو، بطبيعة الحال، قصة رمزية، يرمز فيها البشر إلى السنغافوريين والهيغيمونيون إلى البريطانيين). كما استخدم شان هوك تشاي الرمزية ليخبر قصة اندماج سنغافورة الفاشل مع اتحاد مالايا في أوائل ستينيات القرن الماضي، حيث يكون كوان يو هو سانغ كانسل، شخصية غزال الموس في الحكايات الشعبية الماليزية الذي يعيش من دهائه. أما الأسد فيمثّل البريطانيين، بينما يمثّل الأورانغوتان العطوف رئيسَ وزراء الملايا.
كتاب ممنوح
صارت الأشكال التي يعطيها السيد كوان يو لـ"شارلي" تنمو باطراد وتنحو بشكل متزايد نحو الماكيافيلية. وبحلول عام 1983، اتّخذ دور "السيد هايريلي" (اسم كوان يو عند الولادة كان هاري لي كوان يو)، رئيس مجلس الإدارة في شركة سينكابور إنكس الذي رمى بكاتب النشرة الإخبارية في خزانة الناطور لأنّه أذاع حقائق مزعجة، وأجبر الموظفين على الاعتراف بدورهم في "مؤامرة ريتشارد الماركسي"، في إشارة ماكرة إلى اوبيريشن سبيكتروم، حيث ألقي القبض على 16 شخصًا سُجنوا من دون محاكمة، بعد اتهامهم بالمشاركة في "المؤامرة الماركسية" لإطاحة الحكومة.
ما زالت هذه الحوادث مثيرة للجدل حتى اليوم: قامت هيئة التطوير الإعلامي الحالية في البلاد بحظر "إلى سنغافورة مع حبي"، وهو فيلم وثائقي عن تسعة منفيين لتورطهم المزعوم في مؤامرة شيوعية خلال ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. كذلك، ألغى المجلس الوطني للفنون منحة أعطيت إلى "فن شارلي شان هوك تشاي" لأن الكتاب، بحسب ما أوضح مدير المجلس، "ربما يقوّض سلطة حكومة سنغافورة أو شرعيتها"، إذ لا يتجنّب تناول فترات مثيرة للجدل في تاريخ البلاد. غير أن سنغافورة لم توقف النشر.
حماسية وجياشة
يتساءل المرء إذا أمكن أن يكون لي كوان متساهلًا جدًا. لكنّ سنغافورة 2016 ليست نفسها سنغافورة 1983 أو سنغافورة خمسينيات القرن الماضي، إذ أصبحت بلادًا أكثر نضجًا وثقة.
لكن، إن تحدثت إلى سنغافورية أكبر سنًا فستسمع في مرحلة معينة طريقتها الحماسية والجياشة حول الكامبونغ الضائعة، أي القرى الصغيرة الحميمة في سنغافورة التي حلت محلها الطرق السريعة والمباني الشاهقة.
في الجزء الأكثر إثارة للمشاعر في الكتاب، يتذكر شارلي "العم العجوز مع السينما المتنقلة على عجلات": إنه رجل عجوز على دراجة هوائية يحمل جهاز عرض أفلام. وفي نهاية المطاف، استُبدل ذلك بالمسارح والتلفزيون. يتذكر شارلي أن الأعمام الكبار في السن ظلوا يعرّجون، "لكنّ الأطفال ما عادوا يتحمّسون لظهورهم. وبمرور السنوات، ندرت مشاهدة هذا العجوز المتجول. وفي أحد الأيام، حاولت (فجأة) أن تبحث عنه، من دون أن تجده".
التعليقات