بقلم &كه يلان محمد
&
يتعامل الروائي مع المرجعية التاريخية من مُنطلق فنّي ولا يهدف من وراء إستعادة الموضوعات التاريخية تقويض أو تكريس رؤية مُعيّنة أو ترجيح قراءة مُحدّدة، بقدر ما يريدُ مساءَلة جملة من الثوابت خارج دائرة المقدّس ومُحددات الجهاز الايديولوجي. إذ إنّ عدم الإدراك لهذا الموقف غالباً ما يؤدي إلى الإلتباس والخلط بين آليات العمل الروائي ومناهج أخرى في تفسير وفهم وقائع تاريخية. لذا لا بدَّ من النظر إلى المادة المعروضة في إطار العمل الروائي وفقاً لما يقتضيه السياق الفنّي بعيداً من التقيّدات السياسية والدينية والمذهبية. كما أنّ الغرض من بناء الرواية على الموضوع التاريخي ليس إسقاط ما وقع في الماضي على مُستجدات الحاضر فحسب بل هو مُحاولة لإتاحة الرؤية من منظور جديد مع ما يتبلورُ نتيجةً لذلك من وعي مُختلف.هذا ما تلتمسهُ في رواية «واحة الغروب» للروائي المصري بهاء طاهر، الصادرة عن دار الشروق، وفازت بجائزة البوكر لسنة 2007. إذ يقاربُ مؤلف «الحب في المنفى» في عمله حقباً تاريخية مُتعددة من منظورات مُختلفة، حيث يتصفُ خطاب الرواية بطابع بوليفينى وتُعبّر اللغة عن رؤى فكرية مُتباينة، كما تكشف عن مستويات الوعي لدى شخصيات الرواية.
هذا إضافة إلى أنّ آلة السرد يتمّ تداولها بين شخصيات مُتعددة، وبذلك تكون المادة مسرودةً على متواليات مُستقلّة ما يمنح الرواية خصوصيةً على المستوى الأسلوبي، وذلك يأتي تتويجاً لتمكّن الكاتب من التعامل مع عنصر الزمن الذي يتخلّل مفاصل الرواية ولا يمكن تجزئته، لأنّ الزمن بمثابة هيكل تُشيدُ فوقه الرواية على حدّ قول الناقدة سيزا قاسم.
&
الثائرُ المهزوم
يُفضّل الكاتب تحديد المدة الزمنية التي تنبسط على مساحتها وقائع الرواية وهي أواخر القرن التاسع عشر أثناء قيام ثورة أحمد عرابي ضد الخديوي توفيق، الذي فقدت في ظله مصر سيادتها، بحيثُ كان الإنكليز يحكمون البلد رسمياً ولم يكن الخديوي إلّا واجهة من دون امتلاكه سلطة القرار.
طبعاً إختيار هذه الحقبة يكشفُ تبصّر الكاتب لما يأتي بعدها من التحوّلات على الصعيد السياسي والإجتماعي والفكري. محمود هو أحد شخصيات الرواية يرسله مستر هارفي بعد حلّ الجيش المصري إلى واحة سيوة ولا تجدي محاولاته نفعاً لوقف تنفيذ هذا القرار، هنا يعترفُ الضابط محمود بأنَّ الإنكليز هزموه مرة أخرى، بعدما خمدوا الثورة في المرة الأولى ما يُعمّق أزمته الداخلية أكثر، إذ هو لا يستطيعُ أن يعتبرَ نفسه ثورياً لأنَّ دوره خلال مهاجمة القوات الغازية على مدينة الاسنكدرية لم يتجاوز ما قام به أيّ مواطن عادي. زدْ على ذلك صدمته بإنقلابِ صديقه طلعت على الثورة وشهادته ضده خلال التحقيق. ربما يهونُ كل ذلك أمام ما تلفّظ به محمود حين وصف الثوار بالبغاة وهذا التخاذل هو ما لا يغفره لنفسه.
تتقاطع هذه الهواجسُ مع ما تعيشهُ «كاثرين» الإيرلندية التى تلتقي في طريق أسوان بمحمود، إذ تجدُ في تعامله أسلوباً مُختلفاً عن تصرفات الذين إرتابوا منها كونها أجنبية، كما تغيب الرغبة الشهوانية في سلوكه، فالأخيرة أيضاً سلب الانكليز حرّية بلدها، ولا ترتاح بحملها للجنسية الإنكليزية بل تعتبرها عاراً وستتخلّص منها حالما ينال شعبها الإستقلال.
زيادة على ما سلف لا تنفكّ كاثرين تتعذب كلما تذكرت بأنها أخذت مايكل من أختها فيونا، هكذا تقترب أكثر من محمود إلى أن تصبح زوجته على الرغم من وجود الإختلاف بين ديانة الإثنين. يُشار إلى أنّ ما تسمعهُ من كاثرين ينطوي على أثر الخطاب الإستشراقي لا سيما ما يشي به كلامها عن هيمنة الشبقية في رؤية الرجل الشرقي للمرأة.
كما إنطبعت في ذهنها وهي طفلة بأنَّ الشرق ليس سوى مستودع للتاريخ والغرائبية، الأكثر من ذلك تفهم ممّا يقوله اسكندر عن تجربته في البلدان الشرقية أنّ السلطة والخوف صنوان، حيث يبوح بما يشبه أسلوبَ الحوار الداخلي «هناك تعلمتُ أنَّ الخوف لا الحكمة هو أساس الملك».
بهذا يقدّمُ صاحب «خالتي صفية والدير» صورة الشرق من وجهة نظر الوافدين من عالم آخر ولا تتغيّر هذه الرؤية على مرّ العصور، كما أنّ مباركة إله آمون للأسكندر المقدوني تومئ إلى إلتحام الدين والسلطة في الشرق.
&
شبح الماضي
يحومُ شبح الماضي في عالم شخصيات الرواية، إذ تتراكم مخزوناتُه سواءٌ ما يعودُ إلى خارج الحقل الزمني للأحداث السرديّة الحاضرة في الرواية أو ما يرتبطُ ببدء الحاضر السردي. ويلجأ الروائي إلى ما يصطلح عليه بإسترجاعات خارجية وداخلية في آن واحد وتكثيف عنصر الزمن في مقاطع معيّنة يفرضه الإنفتاح على عصور مُختلفة والعودة إلى أزمنة غابرة.
وبذلك تطاردُ الماضي شخصيات «واحة الغروب» ولا يغادرُ طيف نعمة السمراء خيال محمود، كما لا يكفُ عن مساءلة نفسه حول موقفه إزاء ثورة عرابي إذ يرى محمود الذي يتخذُ أبعاد الشخصية الإشكالية أنّ صحراء سيوة إمتداد لصحرائه الداخلية، وغياب الجواب لأسئلته المؤرقةِ.
وتعاني كاثرين من عبء الماضي أيضاً غير أنّ ما يفرّق بين الإثنين هو أنّ الأخيرة تعالجُ مشاكلها الوجودية بالبحث عن مقبرة اسكندر، وتزور معابد منتشرة على طول الصحراء ولا تتوقف تنقيباتها حتى بعد مقتل مليكة إبنة أخت الشيخ يحيى، فالشيخ صابر بدوره وهو من أجواد سيوة يحملُ في صدره رغبة دفينة للثأر من قتلة أبيه.
كما تدرك تناقضات شخصية اسكندر فهو لا يتردّدُ بتصفية كل مَن يعترضه، لكن كلما قتل أحداً من رفاقه ينزوي ويتألم من وطأة ضميره المعذّب. هكذا بإستثناء مقتل مليكة وإضطرار المأمور محمود لإستخدام المدفع الذي له دلالة سيمولوجية ويعضد ما توصّل إليه اسكندر عن ضرورة الخوف لإدامة السلطة، لا يحدثُ ماينقلُ الرواية إلى منحى جديد.
غير أنه بوصول اليوزباشي وصفي إلى الواحة تتداخل خيوط الصراع بين الشيخ صابر والمأمور من جانب وبين وصفي ومسؤوله من جانب آخر، إذ يتبيّن موقف اليوزباشي الجديد بمساندته لوجود الإنكليز ونزعته الإستعلائية.
ضف إلى ذلك ما يسبغه على الرحالة الأجانب من الفضل كونهم نفضوا عن أمجاد مصر التليدة بينما لا ينزل أحمد عرابي إلّا في منزلة الخونة. هنا تقابل فيونا آراء وصفي المضادة للثورة، فالأولى تقارن بين تضحيات أبناء بلدها إيرلندا ضد المستعمر الإنكليزي مع نضال الشعب المصري لإستعادة السيادة.
ومن ثم يدور النقاشُ بين محمود واليوزباشي وصفي إلى أن ينتهي الأمر باتّخاذ محمود قرار نسف المعبد. كأنّ بالكاتب أراد أن يعبّر من خلال هذه النهاية بأنّ الماضي مهما كان مشرقاً لا ينفع للحاضر ولأبناء المستقبل.
تتوزّع المادة المسرودة على ثمانية عشر فصلاً تتناوبها شخصيات الرواية وتتحرّك بين عدة ثيمات: الخيانة والثورة والثأر وعقدة التاريخ. وجدير بالذكر أنّ أسماء الرحالة والمواقع الأثرية ترد في سياق الرواية، ناهيك عمّا يلحقه الكاتب بروايته من المصادر والمعلومات التي ينهض عليها أساس عمله، ما يوهم بواقعية ما يسرده.
&