&
أخيرا إنطفأت روح الفنانة الفرنسية الكبيرة جان مورو عن سنّ تناهز 89 عاما. وهي لم تكن فقط ممثلة قديرة حصلت على إعجاب وتقدير مشاهير المخرجين الفرنسيين من أمثال لوي مال، وفرنسوا تريفو، والإسبان من أمثال لوي بونيال، والألمان من أمثال فيم فاندرس، والإيطاليين من أمثال أنطونيوني، بل كانت أيضا عاشقة للشعر والشعراء. والبعض من هؤلاء كانوا يصفونها ب:»الملاك المرعب" . وعندما أدركتها الشيخوخة لم تعتزل الناس، ولم تختفي عن الأنظار ، بل ظلت حاضرة بقوة في المشهد الفني والثقافي والسياسي. وكانت تحب أن تقرأ أمام محبي الشعر قصائد بودلير، وراينار ماريا ريلكه، ونيرودا، ووليام بتلر ييتس،وآخرين. وفي صيف عام 2011، قدمت على ركح مسرح أفينيون مسرحية صديقها العزيز جان جينيه:» المحكوم بالإعدام" . وقد دل الحوار المسهب الذي أجرته مع جان هيسيل صاحب كتاب: «أغضبوا" على نضج سياسي مدهش، وعلى إلمام بقاضيا العالم الكبيرة والصغيرة. وكانت تقول لزوراها:»أنا لازلت راغبة في المشاركة في كل تظاهرات التمرد التي تحدف في بلادي، بل في كل البلدان الأوروبية ،إلاّ أن سني للأسف الشديد لم تعد تسمح لي بذلك!»
وكانت جان مورو قد عشقت المسرح مبكرا، وتحديدا في سنوات الحرب العالمية الثانية لما كانت باريس ترزح تحت الإحتلال النازي. فقد كانت تتردد على المسارح الصغيرة، مظهرة نفورا من عالم الكبار، وضائقة بالخصومات اليومية بين والدها ووالدتها التي كانت تعمل راقصة في "لا فولي بارجير". وحالما انتهت الحرب، رمت الفتاة فائقة الجمال نفسها في خضمّ الحياة الجنونية التي كانت تعيشها "مدينة الأنوار". فكانت تتردد على النوادي والمقاهي حيث تدور نقاشات حامية حول الوجودية والماركسية. ولعلها كانت من ضمن من استمعوا إلى سارتر وهو يفك رموز فلسفته الوجودية من خلال كتابه الشهير" الكائن والعدم". وفي الليل، كانت تحب أن تسهر في نوداي الجاز حتى الصباح لتستمع إلى أغاني ومعزوفات لوي أرمسترونغ، ومايلس ديفز الذي سيصبح صديقا لها في ما بعد، وسيبتكر موسيقيى فيلم" مصعد إلى منصة الإعدام" التي لعبت دور البطولة فيه. ولما ذهبت لزيارته في نيويورك، رفض عمال الفندق الذي كانت تقيم فيه، صعود مايلس ديفز إلى غرفتها بسبب سواد بشرته، فانتقلت فورا إلى فندق آخر. ثم لم تلبث جان مورو أن اقتحمت عالم المسرح والسينما لتجد لها مكانا رفيعا في هذا العالم الصاخب. وقد أتاح لها الدور الذي لعبته في مسرحية"قطة على صفيح ساخن" الحصول على الشهرة . كما أتاح لها التعرف على مؤلف المسرحية المذكورة تينيسي ويليامز . وفي فيلم للمخرج لوي مال، لعبت دور إمرأة جميلة تخون زوجها ،وتدفع عشيقها الشاب لقتله. أما في فيلم"لا تلمسوا المال" فقد أجبرها دورها على تلقي صفعة عنيفة من الممثل القدير جان غابان. فلما احتجت على ذلك، رد عليها هو بعنف:» ذاك ثمن المهنة التي اخترتها يا صبيتي الصغيرة!». ولما شعرت أن مخرجي المسرح والسينما باتوا يتزاحمون لتكون نجمة أعمالهم، أعلنت بصوت عال أنها ليست "قطعة لحم طرية يسهل مضغها "،وإنما امرأة تجسد الحرية والتمرد. لذا لن تلعب في المستقبل إلا الأدوار التي تعكس شخصيتها، وفلسفتها في الحياة. وفي فيلم"جيل وجيم" لفرانسوا تريفو الذي زاد في توسيع شهرتها لتصبح معروفة في أغلب البلدان الأوروبية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، لعبت دور كاترين التي لا تدري أين ولدت، والتي لا تخشى خوض المغامرات الأشد خطورة وإثارة . و قد تم عرض هذا الفيلم الذي يمجد علاقة صداقة بين فرنسي وألماني، في الفترة التي كان الفرنسيون والألمان يسعون فيها إلى عقد مصالحة تاريخية تنهي الضغائن والأحقاد القديمة، المتراكمة منذ القرن التاسع عشر.
وفي عام 1970، إنخرطت جان مورو في التظاهرات النسوية ،وأمضت على عريضة تطالب بالسماح للنساء بالإجهاض. وكانت تظهر إعجابا كبيرا بأعمال جان جينيه الروائية والمسرحية. وكانت تسميه «العبقرية الفضائحية» . وغالبا ما كانت ترافقه إلى المقاهي التي كان يرتادها لتمضي معه ساعات طويلة في النقاش حول أعماله، وحول الشعر، والفلسفة.
ولما تقدمت بها السن، ارتبطت جان مورو بعلاقات صداقة مع العديد من مشاهير الكاتبات والكتاب مثل الأمريكية أناييس نين ،والأمريكية الأخرى باتريسيا هايسميث، والفرنسي جورج بيروس. وفي كاليفورنيا، التقت بهنري ميللر، ومعه أمضت أسابيع طويلة تخللتها نقاشات رائعة، وسهرات بديعة كانت تحضر فيها أغاني ايديث بياف، والنبيذ الفرنسي الأحمر،وقصائد بليز ساندرار ،خصوصا رائعته الشعرية:»القطار العابر لسيبيريا وجان الفرنسية الصغيرة». وكانت جان مرور تقول بإن لها أصولا عربية إذ أن إسمها»مورو» مشتق من «مور» الذي يعتني «العربي» في اللغة الفرنسية. وكانت تقول أيضا بإن العالم الذي نعيش فيه راهنا «يستحق كلّ شكل من اشكال الثورة والتمرد». لذا عاشت حياتها حتى النهاية ثائرة ومتمردة على كل مظهر من مظاهر القمع والإستعباد .