&

&
&ليست مدونة جمالية للبحث عن الصباح الصادق، والحلم، والحب، لكنها رؤية شعرية تعبيرية تنقب عن الجماليّ في الحياة، تعبر عن حالة من الفقد، بحثا عن مثال ما. تعبر عن ذات شاعرة تريد أن تقتنص لحظة مشرقة في عالم متسارع، موار بالنسيان يقود إلى قادم مجهول.&
هكذا يمكن لنا أن نتتبع الخيوط الدلالية لدى ذات شاعرة تصبو للبوح، وتحاور أشياء العالم عبر الكلمات.&
تستهل الشاعرة أليسار الحكيم ديوانها :" قصائد عابرة " ( منشورات دار بعل للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 2018 )&
بمدخل شعري تتوسم فيه رسم صورة الذات ببعديها الداخلي والخارجي، الصورة تشكلها جملة من الصور المتتالية التي تترى عبر أفقين: الزمن، والروح. حيث الزمن الذي يتجدد ويتحول ويترك آثاره على الروح التي تقاومه أو تصبو لتغييره، وتشكل دالة:" الصباح" بعدًا دلاليًّا متكررا لدى الشاعرة كإشارة زمنية جلية إلى استشعار القادم، وترويضه، سواء كان بصورة إيجابية حالمة أم بصور غير إيجابية. بيد أنه بحث حيوي عن الآتي.&
في المدخل الذي يتصدر الديوان بوصفه أول ما يطل عليه القارئ من شعر، بعد مقدمة نقدية كتبها الشاعر عصام ترشحاني، نحن حيال ذات متأملة لا ذات واصفة، هي تتأمل إحساسها بالحياة التي هي مزيج زمكاني وإنساني على اليقين، وفي هذا التأمل تُسرجُ قدرًا من الضوء حول تجربة الحياة، وتنيرُ قسمات من تقاطيعها الذاتية والروحية ، ولهذا جاء هذا البدءُ الشعري:&
أنا المتبقية من مآسٍ مهترئة&
زرعتُ عُكّازين أحمرين
ورسمت الشفقَ بريشة طاووس أحمق . / ص 15&
نحن حيال إشارات إلى تجارب في الحياة، واقعية أو متخيلة، ونحن تلقاء بعد زمني، وحيال أفق مرسوم. المآس المتكررة المتبقية، إشارة لتكرار زمني ولتكرار تجارب مؤلمة، ودلالات المقطع تبدي رؤية متأملة، بغض الطرف عن يقينها الدلالي المأساوي، لكن الأداء الشعري هنا يقلنا إلى فجيعة ما، واتشاح بحزن جلي لا يواربُ قسماته.&
تنتقل الشاعرة تاليا إلى سرد شعري، تمكنّه دلالات : الحلم، والجنون، والغناء، لتصل إلى هذا التقرير الأخير لتأمل ذاتها، في المقطع الأخير من النص/ المدخل :
ها أنا ذا يا سيدي&
امرأة طبعت السنون أثلامًا
فوق جلد أنوثتها
المضمّخ بالشبق الشحيح
وتركتْ نُدبًا فوق ظهري المنهك
من سياط الريح
وتلك الأزاهير ذبلتْ في عزّ الربيع
وانتحب الصقيعُ فوق ثراها .
&
ربما هو كشف حساب شعري مع الواقع، أو قراءة استبطانية للذات، وهو ما تفعله عبارات كثيرة بنصوص الديوان، أسرج وهجها الدلالي هذا المدخل الذي ينطوي على صورة مكثفة لما سيأتي تاليا من نصوص.&

في المتن النصّي:&
يتشكل ديوان :" قصائد عابرة" من ( 56 ) نصًّا، تحمل على اليقين الرؤية الشاعرة التي تصبو الذات إلى تقديمها لقارئ راوده مستهل الديوان بمدخل مكثف. وتتمظهر هذه الرؤية في اختيار العناوين الشعرية التي تتألف من كلمة أو من كلمتين، بعض العناوين تحمل هاجسًا رومانتيكيا، على نقيض ما تكنه بعض النصوص من بنى تعبيرية، مثل: بكاء الزهر، كأس حلم، ذراع الخلاص، حنين ، سهاد.&
وبعضها يحمل هاجسًا آخر أكثر واقعية وربما يذهب بعض في مناقضة الواقع ليحوله إلى أفق درامي تتكسر فيه الروح، وتعلو الصراعات والحوارات والأصوات ، مثل: زنابق الخيبة، شهيق، ضجيج هادئ، سرقة، حلم خائن ومنه هذا المشهد الوصفي:&
سرير أسود
ملاءة مطرزة بنجوم باردة&
وصقيع يحفر بطن الفؤاد
المخضب بالمكر&
غشاوة النفاق تأكل عينيه
دود عفن يلتهم أوردته
المغلفة بالتأوهات
نزوات مثقلة بالبؤس
وسادة امتلأت بالصبار
كفوفها تصفق كريح صفراء
بزمن الكوليرا
تنتحبه الحانات / ص 96&
العبارات مشحونة بالألم، مخضبة بالأسود ، باليأس، بالموت، بالبكاء والنحيب، هو مشهد الواقع أم هو مشهد الذات، أم خيطهما الدلالي الواصل بينهما. ربما هي صور سوداء، بيد أن هذا ليس من أثر إسقاط الذات رؤيتها المضببة على كلماتها الشاعرة، فالشعري في الذات يبحث عن مثال، والتعبير هنا ينطوي على البحث عن النقيض المضاد حتى لو ذكرت الشاعرة آلام العبارات وسوادها، فدائما هناك ثلاثي حاضر في معظم النصوص هم: الصباح، والحلم، والروح . وتكرارها يبعث على القادم المشرق، ومجاوزة المادي، والبحث عن حلم يغير واقعه ويتمرد عليه.&
نحن حيال تعبيرات خصيبة في أفق هذا الثلاثي:" نسيم يعبر الروح، نرجس نما في قاع روح، هل ننسى البعد ونصفق لروح الحياة؟ ، ناشدتك الله أن ترحلي يا ملائكة الصبح الندي، فالحلم به لم يصل لحافة الجوى، يقتنص رغيف الصبح وينثر فتاته على الروح، تنمو الأحلام من زغب الرغبة" .&
وكما في ( صخب مؤلم، نور عفن، كخبز الفقراء، مسرح دائري شحذت أطرافه سقطت الأقنعة على شبابيك الحقيقة / ص 25 ) وفي هذه المشاهد تمثيلا:&
- ماذا يحيكُ لي هذا الصباحُ
هل قبلاتُه ستكون دافئة
تكفي لإشباع حلمي الشره؟ / ص 117&
&
- سيكون لي موعد مع الفجر
وآخر مع الشفق
كل يوم سأقطف وردة من رزنامتها
المليئة بالوعود / ص 116&
&
&
- ضجيج ما اقتحم غفلتي
بينما كنت أمارس الحلم
ريحه لم تكن صافية أبدًا / ص 114&
فيما تدعو للتمرد وتبحث عن التغيير كما في قصيدة " بكاء الزهر" ص.ص 110-111&
الشاعرة تدير أغلب نصوصها في هذه المدارات ، موسعة حينا، متأملة في الخطيئة في العقاب، في مراقبة الواقع، في شجن الذات صعودها وانكسارها، تلوذ بأشياء الطبيعة حينا في عالم النبات والزهور أو البحر أو الغيوم والنجوم، تشكل صورها بتلقائية ما وتبقى خرائط الأمنيات مفتوحة على أفق الآخر/ الفارس القادم من حلم، أو على أفق التمرد واقتراف خطيئة التغيير .&

&

أفق جمالي:&
من خلال سبر جملة من نصوص الديوان، تتضح الرؤى الجمالية من وجهة تقنية التي تتكئ عليها الشاعرة في تشكيل نصوصها، ففي نصوص الديوان الأول – تمثيلا - :( باب الرجاء، حدّ وجلد، نبض، سهد، سفر، رداء الشوق، ملائكة، دوائر رحيق ، قوافل شوق، صباح الحياة، باب الغرام، دوران، حياء ) نحن حيال تكوينات شعرية تستند على البنى القصيرة والمتوسطة، تستند على قصر العبارة الشعرية أحيانا، على تكرار حقول دلالية متقاربة، كما في هذا النص القصير: صباح الحياة:
ألبسته قميص فجري
مطرزًا بالحب
فحلق في فضاء ألقي
وعاد مخضّبًا بالسحر
نام على كتفي هامسًا
صباحُكِ سلام...
فغطيته بشوقي وقلتُ:
صباحك حياة. / ص 33&
في نص :" سحر" ( ص.ص 39-40)& يمكن أن تتجلى نصوص اللقطات السريعة القصيرة، التي تتجاور لتصنع نصًّا موحّدًا . لقطات شعرية متتالية مكثفة، يحتضنها عنوان النص نفسه:" سحر" كأن السحر يطلع من هنا وهناك من عدة لقطات تحل فيها الكلمات محل الفوتوغراف لتنسج صورها الخاصة المتدفقة، خاصة حين تذهب بنا إلى صورها الأكثر تخييلا وحلما:&
&
لملم ضلوعي
وضمّ جلدي عليّ
طوّقه بشغف
واجعل من لعنة الحب فراتًا للخيال
واسقني من تسابيح الوصايا / ص 44&
&
كم هو مؤلمٌ&
أن تكون على بعد بحّةٍ
ولا أستطيع تنفسك /& ص45&
&
في نص :" نسوة" / ص 77& تركز الشاعرة على ما هو وصفي، وما يسمي الأشياء ويصفها، فهي لم تضمن النص أي فعل، النص جمل اسمية وشبه جمل متواترة، : سنابل حبلى، رجالات، ياسمين مطوق بالصبار ...&
التسمية كأنها حالة تثبيت، ورقْمٌ، ونقش، فإذا كان حضور الفعل يمنح الجملة أو المشهد الشعري قدرا من الزمنية التي تحركه عبر أزمنة ثلاثة، فإن خلو المشهد منه يثبته، ويرسخه، لأنه بلا زمنية متحولة. وهذا الثبات يعطي يقينا بالحضور، ويعطي تصميما للوحة الكلمات. على اعتبار أن اللوحة المرقومة بالحروف كاللوحة المنقوشة باللون، كلاهما خارج الزمنية والتزمين. كلاهما باحث عن أبدية ما، ساكنة، ولا يحركها سوى الخيال القارئ أو المشاهد.&
من جانب آخر فإن بعض الحقول الدلالية الرومانسية لا تصبح ذات جدوى في قصيدة اليوم إذا حضرت بسياقاتها الدلالية نفسها، إذا لم تبعث بعد أن تحترق تصويريا في سياق متجدد، يخاصم المعهود ويقدم تعبيره الدرامي المتوتر ، كما نجد في هذه التعبيرات في هذا المشهد من نص:" نبض" :&
نبض عظيم، نسيم يعبر الروح، يستقر فوق أشرعة العمر، يمطر ندى لينعش خضر السنابل . / ص 21 وتتكرر هذه الحقول الدلالية في نصوص مثل: سهد، صباح الحياة .&&
وعلى العكس من هذه الرؤية هناك رؤية واقعية درامية تتوتر فيها الكلمات، وتتصارع آفاقها الدلالية بشكل يصنع صورا ثائرة تجرح الحواس، وتعطي بعدها الشعري الصاخب الحاد المسنون كما في نص :" سفر" حيث نجد تعبيرات درامية حادة تغطي مشهد النص: السماء موحشة، وجع، عويل،&
وكواكب
تتشاجن كؤوس النشوة الأخيرة&
تسقط واقفة على المقل
كسيل يحصد وردا بنُدب متهدلة. / ص 24&
&
بيد أن ثمة ملاحظة& يمكن أن نزجيها في سياق القراءة النصية هنا، تتمثل في وجود التقريرية والتبرير بدلا من السؤال والارتياب، كما في هذا المشهد تمثيلا:&
البحر أنبأني بأنك الآتي من خلف سهوب الأقاحي
بعد المد الكبير المحمل برسائل الحب
وتنهيدات العاشقين
وبأن تفاصيل الوجود ارتمت على حضن المنى
فأورق الشيب نورا& / ص 49&
&
ويبلغ الفقد، والشعور بيأس ما ذروته في المقطع الأخير من الديوان من قصيدة:" زنابق الخيبة " ص.ص 117-118 ، حيث استشعار تحولات الزمان ولعناته، والخيبات المتتالية التي ينتشي فيها الألم، حيث توجه الشاعرة صوتها إلى دالة " الزنابق" المعبرة عن الحياة، متحاورة معها، عبر هذا النداء:
أيتها الزنابق
ستصيبني الحمى إنْ تركتُ كأسَ خمرك
دعي تكّاتك تهبطُ رويدًا رويدًا&
ولا تستعجلي حريق الشوق
وحصاد الخيبات المرصّعة بالنشوة
أنتِ أيضا ستحطُّ عليك لعنة الزمان
وستنتهين كسلفك
مهزومةً .. مهزومة ً .&
هل من أمل يعيد الذات إلى نشوتها بالحياة؟ هل من كتابة تنقب عن جمالية مثالية تشرق فيها الكلمات، وتبوح أكثر؟ يتسنى للشعر أن يحمل نبض هذا اليقين.&
&