لبنان بأمس الحاجة للطاقة، ويعاني من أزمات اقتصادية ومديونية باهظة، لكن الخلافات الاقليمية وحالة التخبط الداخلي أدتا الى اهمال موضوع استغلال ثرواته النفطية المتوفرة في مياهه الاقليمية على مدى السنوات الماضية.

إيلاف من لندن: بعد سنوات من التردد والتخبط، قررت الحكومة اللبنانية توجيه الدعوات لشركات التنقيب بتقديم مقترحات مبدئية عن الرغبة في المشاركة لتأهيلها كجهات قادرة على انجاز المهمة.

من المتوقع ان تتم دعوة الشركات المختصة التي حصلت على التأهيل المسبق لتقديم عروض لتطوير واستغلال حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط اقتصاديًا لانقاذ لبنان من أزماته وعلى رأسها المديونية الضخمة وأزمة الطاقة، حيث تنقطع الكهرباء باستمرار. وتتوقع الشركات الراغبة بالمشاركة في الاستثمار أن تنفق مئات الملايين من الدولارات على عمليات الاكتشاف والحفر والتنقيب، وملايين أخرى على نقل الغاز للمستوردين في اوروبا أو لدول مجاورة، وهذا ليس بالأمر السهل نتيجة للوضع السياسي غير المستقر محليًا وإقليميًا. 

الجدير بالذكر أن مصر واسرائيل وقبرص باشرت في مشاريع انتاج الغاز الطبيعي والنفط من البحر، ويبقى لبنان خارج اللعبة وآخر من ينتج، وربما لا يجد زبائن جاهزين. ولكن على الأقل يستطيع لبنان تلبية حاجته المحلية، وبالتالي الاستغناء عن الاستيراد.

وحسب تقرير حديث من بلومبيرغ في مارس 2017، تم تمرير مرسومين وقعهما رئيس الحكومة سعد الحريري لرسم حدود البلوكات ولتوقيع عقود انتاج مشتركة وبروتوكولات المناقصات، فيما الدراسات السيسموغرافية تشير الى تواجد 96 ترليون قدم مكعب من الغاز و 850 مليون برميل من النفط.

حتى الآن، تم قبول عدد من الشركات الدولية مثل "اكسون موبيل" و "شل" و "الشركة البرازيلية للبترول" كشركات تشغيل رئيسية. مرحلة تأهيل الشركات بدأت عام 2013، وتم تأهيل 12 شركة رئيسية وهي شركات التشغيل، وتم تأهيل 34 شركة كشركاء غير تشغيليين.

وبعد بدء عمليات التنقيب، سينتظر لبنان 4 سنوات قبل ان يحصل على نقطة واحدة من النفط أو الغاز. وهو سيجد صعوبة في العثور على زبائن جاهزين للشراء، لأن قبرص واسرائيل ومصر وتركيا وقعت صفقات استيراد وتصدير مع الزبائن الأوروبيين وحتى الاقليميين.

النزاع مع اسرائيل 

مصدر القلق والتوتر الآن هو عزم اسرائيل على استغلال الغاز من المناطق التي يقول لبنان انها تابعة له، واشارت صحيفة 'يديعوت أحرونوت' مؤخرًا الى أن وزير الطاقة، يوفال شطاينيتس، ووزير حماية البيئة، زئيف إلكين، سيطرحان على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية والكنيست قريبًا اقتراحًا للمصادقة على ترسيم الحدود البحرية – الاقتصادية، على أن يشمل 'منطقة يوجد خلاف حولها مع لبنان'. وأضافت الصحيفة أنه 'يفترض بقانون المناطق البحرية أن يفرض سيادة وقوانين إسرائيل لغرض التنقيب عن موارد طبيعية واستخراجها'، علمًا أن القانون الدولي ينص على تقاسم المناطق بين الدول المشاطئة للحوض البحري نفسه بالاتفاق وبالاستناد إلى نقطة وسطية بين اسرائيل ولبنان.

النزاعات البحرية بين لبنان واسرائيل ليست جديدة، فمنذ عدة سنوات تقول اسرائيل إن لبنان خرق التفاهمات المتعلقة بالوضع القائم بدعوته الشركات من اجل التنقيب في مناطق متنازع عليها. يتركز الخلاف حول مساحة بحرية مساحتها 800 كم مربع، وكلا الطرفين يؤكدان ان لهما الحق في استغلال هذا المثلث. ولم تحاول اسرائيل اخفاء نواياها واستعدادها للجوء إلى القوة العسكرية اذا لزم الأمر، حيث هدد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، باستعمال القوة للسيطرة على المناطق البحرية قبالة حدود غزة ولبنان بهدف استغلال الثروات النفطية. وحسب دراسة سابقة لادارة النفط في لبنان، تبين أن البلوك رقم 9 (وفق الخريطة اللبنانية) يحتوي على مكامن نفط وغاز يمكن أن تشكل امتدادًا لحقل كاريش الإسرائيلي، وبالتالي فإن التداخلات ونقاط التماس الجغرافية خلقت الفرص للنزاع، وهذا ما تقوم اسرائيل باستغلاله.

إلى ذلك، أكدت دراسة أميركية أن البلوك رقم 8 يحتوي على مكامن لبنانية مشتركة مع حقول إسرائيلية وقبرصية، أهمها حقلا "تانين" و "لفيثان"، اللذان يحتويان على كميات كبيرة من الغاز. ويعتقد اللبنانيون أن المناطق البحرية الجنوبية المتاخمة للحدود الشمالية مع فلسطين تحتوي على كميات كبيرة من الغاز الطبيعي والنفط حسب المسح الجيوفيزائي والدراسات.

مما لا شك فيه ان تقارب وتداخل مكامن النفط والغاز بين المياه اللبنانية والاسرائيلية والفلسطينية يتطلب تقاسم الثروات حسب التحكيم الدولي المختص في قانون البحار. حتى ان البعض يتهم قبرص بالتآمر مع اسرائيل على استغلال الثروات اللبنانية، ومن الواضح ان اسرائيل لا تحترم الحقوق اللبنانية ولا تعيرها أي اهتمام، ولبنان في المقابل لا يرغب في التشاور مع اسرائيل والتفاوض معها. 

في مرحلة سابقة، كانت اسرائيل قد حثت الولايات المتحدة والأمم المتحدة على ممارسة الضغوط على لبنان لتعديل اصدار المناقصات لشركات دولية لاستغلال الغاز والنفط في خمسة بلوكات أو اقسام بحرية، لأن ثلاثة منها تقع ضمن الحدود الاسرائيلية البحرية وتتلامس وتتداخل جغرافيا مع المثلث الذي تبلغ مساحته 800 كم مربع، لكن اسرائيل ترفض التحكيم الدولي ولا تريد ان تنظر محكمة لاهاي الدولية في هذا النزاع مع دولة مجاورة مثل لبنان.

الاكتشافات المصرية 

لا يمكن مناقشة الغاز والنفط في البحر الأبيض المتوسط دون التطرق لأهم الاكتشافات التابعة لمصر واسرائيل.

وأهم الحقول المصرية في البحر الأبيض المتوسط يسمى "حقل شروق"، وهو أحدث حقول الغاز المكتشفة على مستوى العالم، وقد أعلنت شركة الطاقة الإيطالية "إيني" في أواخر شهر أغسطس الماضي عن اكتشاف أحد أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم، وذلك قبالة السواحل المصرية المطلة على البحر المتوسط.

من المتوقع أن تبلغ إنتاجية الحقل حوالي 30 تريليون قدم مكعب من الغاز، وهو ما يعادل 5,5 مليارات برميل من المكافئ النفطي.

ستذهب نسبة 40% من الحقل الجديد للشركة الإيطالية "أيني" من أجل استرداد تكاليف البحث والتنقيب، فيما سيتم تقسيم النسبة الباقية بين الشركة الإيطالية بنسبة 35% مقابل 25% لشركة "إيجاس" الحكومية المصرية. وبعد استرداد إيني للتكاليف ستتحول نسبة "إيجاس" إلى 40% من إجمالي الحقل.

وحقول دلتا النيل، حيث تبلغ كمية الغاز الطبيعي المنتجة منها حوالي 50 تريليون قدم مكعب، تم اكتشاف كميات جديدة من الغاز في هذه المنطقة بلغت حوالي 223 تريليون قدم مكعب.

الاكتشافات الاسرائيلية

أهم الاكتشافات الاسرائيلية هي حقل "ماري" الذي يقع قبالة سواحل قطاع غزة، وتحديدًا جنوب شرق حقل "نوح". وتبلغ إنتاجيته الإجمالية حوالي 1,1 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. حقل "تامار" يبعد حوالي 80 كيلومترًا من مدينة حيفا على عمق 1700 متر تحت سطح البحر، وتم اكتشافه عام 2009 وبدأت عملية إنتاج الغاز منه عام 2013. وتبلغ إنتاجيته الإجمالية حوالي 8,4 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. ثم حقل "ليفياثان" العملاق، وهو حقل غاز إسرائيلي يقع شرق البحر المتوسط على بعد 130 كيلومترًا من مدينة حيفا. وتقدر احتياطاته بحوالي 22 تريليون قدم مكعب من الغاز. وهناك من يقول إنه يتبع المنطقة الاقتصادية الخاصة بمصر وليس إسرائيل.

تمتلك شركة "نوبل إينرجي" حصة 39.66% في حقل "ليفياثان"، بينما تملك شركتا "ديليك دريلينج" و "إفنر أويل إكسبلوريشين" نسبة 22.67% لكل منهما، وتمتلك شركة "راتيو أويل إكسبلوريشن" نسبة الـ15% المتبقية.

حقل "داليت" يبعد مسافة 60 كيلومترًا تقريبًا عن منطقة الحضرة الإسرائيلية. ويبعد مسافة 40 كيلومترًا جنوب حقل تمر. ويبلغ إجمالي احتياطي الغاز به حوالي 0,53 تريليون قدم مكعب. وهناك حقول أخرى صغيرة.

الكميات اللبنانية المحتملة

مصادر الحكومة اللبنانية تقول إن هناك ما لا يقل عن 2700 بليون متر مكعب من احتياط الغاز الطبيعي و 850 مليون برميل من النفط الخام، وهذا لا يختلف كثيرًا عن الكميات التي اكتشفتها اسرائيل. 

واثناء مؤتمر غاز شرق المتوسط، الذي عقد في قبرص العام الماضي، أشار رئيس ادارة لبنان للبترول للكميات الموجودة في مختلف البلوكات، وفي الوقت ذاته ينفي لبنان أن هناك تماساً بين مياه لبنان الاقليمية ومثلث الصراع الذي تبلغ مساحته 800 كم مربع.

لا تزال الحكومات الاقليمية شرق البحر المتوسط وشركات الطاقة العالمية متفائلة بفرص استغلال الاحتياطات الهيدروكربونية المخزونة في حوض البحر في المناطق البحرية القريبة من اسرائيل وتركيا وقبرص ومصر ولبنان. اللاعبون الآخرون الذين سيستفيدون من استخراج الثروات في البحر هم اسرائيل وقبرص وقطاع غزة. واشارت دراسة اميركية جيولوجية لتواجد 1.7 مليار برميل من النفط و 3.45 ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي. اسرائيل كانت اكثر الدول نجاحًا عندما تم اكتشاف حقلين كبيرين عام 2009 و 2010 وبدأت الان ببيع المنتجات.

وبناء على دراسة قامت بها "مؤسسة المسح الجيولوجي الأميركية" عام 2010، وحسب تقديرات الدراسة، هناك احتياطات غاز تبلغ 122 ترليون قدم مكعب واحتياطات نفط تبلغ 1.7 بليون برميل في المياه الاقليمية اللبنانية. وبعض التقديرات تشير الى ان لبنان يمتلك 80 ترليون قدم مكعب من الغاز و 865 مليون برميل من النفط، حيث تم مسح المنطقة جيوليوجيًا في السنوات السابقة، بما فيها مسح ذو بعدين ومسح ذو 3 ابعاد.

وأهم مشاريع الاكتشاف والتنقيب حصلت في المياه الاقليمية التابعة لاسرائيل وتركيا وقبرص لأن هذه الدول الثلاث تتمتع باستقرار سياسي نسبي مقارنة مع مصر ولبنان. وشهدت الأشهر الأخيرة محاولات لبنانية جادة لاستغلال الغاز الطبيعي ويؤمل أن المراحل الأولية من أعمال التنقيب تبدأ خلال 12 شهرًا أو اقل. 

مشاكل داخلية وخارجية

المشكلة في لبنان هي التأخيرات والنكسات والنزاعات السياسية التي عطلت كل الجهود الرامية لاستغلال ثرواته الطبيعية. غياب الاستقرار السياسي لعب دورًا كبيرًا في افقار لبنان وحرمانه من الطاقة المتوفرة في مياهه الاقليمية. الحرب السورية وتدفق اللاجئين وانخراط حزب الله اللبناني في الحرب وبقاء لبنان من دون رئيس جمهورية لعامين ساهمت في عرقلة عجلة التطوير واستغلال الطاقة.

الاكتشافات في مصر وقبرص واسرائيل حفّزت الدولة اللبنانية على القيام بأعمال التنقيب والتطوير، وكذلك المخاوف حول فقدان حصته من السوق الاقليمية، شجعت على البدء بخطوات جادة لاستغلال الثروة الهيدروكربونية.

رغم توافر التحفيز والرغبة، الا أن غياب اتفاق سياسي منع المباشرة باطلاق عمليات الاكتشاف والتنقيب، والآن مع تغيّر الوضع وعودة الزخم السياسي للاسراع في استغلال الثروات، لا تزال مسألة النزاع الجغرافي مع اسرائيل والحرب في سوريا تعيقان التقدم في هذا الملف، ما سيؤدي الى تردد الشركات ذات الخبرة التقنية في الاستثمار والمغامرة والانتاج في اجواء مشحونة غير مستقرة. كما ان هناك عنصر المجهولية في البيئة السياسية التي قد تنفجر مجددًا بين الأحزاب البرلمانية اللبنانية المختلفة. ويرى البعض ان الاتفاق السياسي عام 2016 قد يتم اعتباره كصفقة مبدئية تمهد لصفقة وطنية. متى تم تحقيق ذلك، يستطيع لبنان التقدم في مشاريع الغاز والنفط. 

ولكن رغم هذه المجهوليات، يبقى قطاع الطاقة اللبناني في البحر المتوسط جذابًا لشركات النفط العالمية، مع امكانية تحويل الاقتصاد اللبناني من مستورد للطاقة الى منتج يحقق الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض. ومن المصاعب التي تواجه لبنان هو عدم توافر البنية التحتية اللازمة. وهذا النقص بدوره سيخلق الفرص لشركات الملاحة وشركات بناء الأنابيب وبناء محطات لتسييل الغاز ومصافي التكرير ووسائل نقل لتوصيل الغاز والنفط للزبائن في الخارج. وعليه، يبدو من المؤكد أن هناك عقبات سياسية وجيو بوليتيكية امام تطوير مصادر الغاز والنفط اللبنانية.