إنه من الصعب على شعب ثرثار أن يتنبه لوقع أقدام الوقت الهارب.
ورفع القلم عن أربع: عن الصبي حتى يحلم، والمجنون حتى يفيق، والسكران حتى يصحو، والنائم حتى يستيقظ؟!
والشعب العربي في صبيانية بدون رشد، ونوم بشخير مزعج، وجنون بدون إفاقة، سكران يترنح...
وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
وباعتبار أن قسما لا يستهان به من الشعب العربي ثرثار يعيش على اللغو والثرثرة والكذب والتأثيم والتجسس وكتابة التقارير السرية، فقد جاءته قصة يلغط بها ويتسلى في انتصارات وهمية لشعب مسحوق حتى الأعماق في ظلمات من الإحباط..
لذا وجب تفهم آلية التنفيس في سيكولوجية إنسان مقهور، ولا يستبعد أن تكون أحد احتمالات الحدث أنه ترتيب مسبق كما في قصة الأمير وأواني النحاس، فقد أورد ابن مسكوية أن الأمير عقد حفلة سمر ليلية لأعيان القوم فلما طاب الجلوس وهدأت النفوس سقط من ظهر القصر إلى الصالة أواني نحاسية مجلجلة الصوت فجأة فتدافع القوم ودعسوا بعضهم بالأقدام؟!!
كل القوم هاجوا وماجوا إلا اثنان الأمير والعالم لأنهما عملا ذلك بترتيب مسبق..
وهكذا فإن العلم يورث الطمأنينة ..
وهدوء بوش وهو يستقبل الحذاء المقذوف عليه قد يكون بترتيب ووحي بدون أن يشعر نفس من فعل الفعل
وهو احتمال ..
لذا وجب النظر لآخر قصة من إنتاج السندباد البحري في بغداد من منظور علم النفس
فقد ودع العراقيون بوش بفردة حذاء؟ ولكن ليس كل العراقيين..
وتطوع 200 من محامي العرب للدفاع عن حذاء..
وبدأ المزاد العلني عند العرب لشراء الحذاء الشريف؛ فهناك من رصد مبلغ 100 مائة ألف دولار ثمنا له، وآخر دفع الرقم ليصل إلى عشرة ملايين دولار، قدمه ثري خليجي لم يتعب في ماله كثيرا ويدين بكل ما يملك لصدفة جيولوجية أكثر من عرق الجبين..
وهو يذكر بقصة مروة التركية بفارق الجنس والموضع..
بين الرأس والقدم ....
وهي عند العرب لا تختلف كثيرا، فمن يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معا..
كما ذكر يوما مالك بن نبي عن رجل لبس البدلة الأوربية واعتمر بالطربوش التركي أن الحضارة دخلت من رجليه ولم تصل رأسه بعد؟
وبدأت حفلات تبادل كأس النخب بين العرب في توزيع بطاقات تهنئة برأس بشري مدموغ بكعب حذاء من قياس 44 زيادة في التشفي، بل تم إدراج مجموعة من الأسماء التي تطلق بشكل عام على
الحذاء : نعل - جزمة - كوندرة - بوت - بوصطار - شاحوط - اشلاكة - صَرمة ndash; صورماية ـ قوبقاب - مشّاية - حفاية - كاوتشي - فورزا - شبشب - صندل - بابوج ndash; شوز؟!!
وهو تفريج كرب من لا يفرج كربه...
وتمنينا تصديقه..
ولكن هل يمكن لعربي أن يفعل هذا بقائد ثوري، تهتف له جماهير حمقاء مقادة مغفلة في كل زاوية، مع زرع صورة ملونة مضيئة معطرة لشعب مسحوق فقرا وغما، تزعق في كل نادي: بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم؟
وفي يوم تبرعت مظاهرة من المحامين العرب للدفاع عن شقي العوجة..
وهو يذكر بقصة المحامي فيرج (Jacques Verges) الذي أبدى استعداده للدفاع عن هتلر، وجميع أوغاد الأرض وطبق هذا في دفاعه عن النازي باربي والحرامي الإرهابي الكبير كارلوس ذراع وديع حداد، أستاذه في القتل والمقتلة، ولولا جشع الأول للمال لمات عشرات من وزراء البترول يوم الاختطاف الأعظم، ومنهم زكي اليماني الرأس الأول المطلوب؛ فهو حي يرزق بمحض الصدفة، وتنازع أهواء وديع وكارلوس بين الدم والمال.
وحين تجرأ الصحفي العراقي أن يرشق بوش بسفل حذائه فهو مؤشر خير وليس كما هلل العرب الأشاوس..
وذاكرة الشعوب قصيرة، ونفوسهم بئيسة، والحقد له مرتع، ولكن ثقافة بوش تسمح بحدث مثل هذا، وكانت نظرة من صدام لأحد الرفاق كافية أن تصيبه بداء الرجفة بقية حياته، أو تذهب بصاحبها إلى قصر النهاية أو الرحاب، وما أدراك ما هي؟
ولذا وجب تأمل قصة الحذاء المرشوق من زاوية مختلفة هي التعبير وعدم الخوف حتى بالصورة القميئة.
إننا نضل حين نظن أننا نلنا من بوش بهذه الطريقة، بل هي شهادة له أنه لن يسحل في شوارع الكوفة والبصرة، ذلك الذي تجرأ فسمح لعقله بالتفكير ويده بالضرب..
وهذه هي جدلية التعبير أن تعرف كيف تعبر وتغضب حسب المنطق الأرسطي في المكان المناسب من الشخص المناسب للسبب المناسب..
إننا نفرح بتصرفات الحذاء وننسى أنه نقلة للعراق إلى عصر التعبير ولو برشق الأحذية ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
إن ضخامة الأشخاص عندنا وتورمهم إلى حد التأله، وضغطهم إلى حجم حذاء في الثقافة الغربية مأساة للعقل العربي والثقافة العربية، وجائزة للثقافة الغربية التي لا تسمح للتأله.. وليس من مجال
وهذا إعلان رائع للتوحيد السياسي نسيناه من أيام المتوكل..
إنني أذكر قصة شاعر أحضروه إلى الخليفة متهما بكلمة، فلما أصبح رأسه بين السيف والنطع والجلاد ألقى أبيات من الشعر حاصلها أنه لا يأسف على نفسه أن يطير رأسه مثل ديك رومي، ولكن الصبية الصغار الذين سوف يصرخون ألما حين ينعى إليهم الأب، الذي سمح لعقله بالحركة، ولسانه المعقول بكلمة..
نعم إنها ثقافة العقل المعتقل.
فهل يمكن أن نسجل لأمريكا نصرا جديدا أن أعظم شخصية تعرضت لإهانة ـ من وجهة نظرنا ـ فلم يسحل صاحبها على الطريقة العراقية، ولم يشنق فيطير رأسه بمعاليقه كما فعل أخوة برزان التكريتي ببرزان..
العراق يستحم في الدم منذ أيام الحجاج وقبل الحجاج، ولعل إهراق الدم في ذكرى الحسين تصب في نفس الاتجاه الدموي.
والآن بعد أن طار صدام ودخل جنود أمريكا إلى العراق، بدئوا في التعبير والاجتماع وتشكيل الصحافة والتمتع بالانترنت والجرأة على الاعتراض وإنشاء مجالس الصحوة والخروج في مظاهرات ومسيرات، والصراخ والزعيق ولو ذما وشتما وقدحا وبغضا ورميا للأحذية في وجوه الرؤساء، وكانت في أيام الراحل المصدوم جرائم يحاكم عليها صاحبها ويوضع على الخازوق..
هل يمكن أن نفهم من حادثة حذاء بوش أننا في مكان الحذاء ننتج الأحذية، وأن بوش في مكان تحمل الأذى يرده بيده بدون جاندرما ومخابرات وتعذيب واستخراج للحقائق كما يريد عسس المخابرات؛ على أي شكل ونحو ومظهر.
فإن أرادوا خرج متآمرا للصلب، وإن أحبوا بدا حيوانا وديعا يدب على أربع، أو زاحفا صحراويا على بطنه يزحف، أو مشوها يجرجر قدميه بلحية منتوفة محروقة، أو عميلا لأي جهة عالمية..
إن ما حدث في زيارة بوش الأخيرة أفضل شهادة يمكن أن يخرج بها للتاريخ، أنه تلقى الحذاء فلم يرد عليه بالمثل، بل كان أفضل منه، في حوار بين الحذاء والكلمة، فهذا هو الفرق بين الثقافتين..
مع هذا فقد أرسل لي أبو رتيمة من غزة المحاصرة يقول:
ماذا لو اتخذت الأمور منحىً آخر وانتصر صوت الغرور والتكبر على صوت العقل والعدل لدى أمريكا وسعت للانتصار quot;لكرامتها الوطنية المهانةquot; وإن بطرق غير مباشرة فأوحت لبعض أدواتها في العراق بالتخلص من هذا الصحفي الذي تجرأ على الإله بوش..وهو احتمال وارد جداً
وجوابي عليه بثلاث: اعتراف أن أمريكا قد تودع العقل، كما ودعه العرب منذ أيام كافور الإخشيدي، وأمريكا ليست بدون عقل ولن تودعه..
وثانيا إن من فعل يعرف أن بوش مودع، وأنه في مظلة بوش والعالم لن يكون مصيره مثل أيام صدام، وأما الأخيرة فإن كان أمرا مدبرا بليل لو باستخدام الفاعل بإرادته في مصب إرادة أكبر؛ فهي عين الدهاء والضحك على العرب ورفعا لقيم الديمقراطية التي لم يذق طعمها العرب، مثل تصور أي طفل تحدثه عن المتعة الجنسية..
وأخير إن حصل ما قلت فسيكون بيد عراقية كما فعلوا بصدام وبرزان الذي شنق برأس بدون جسم؟ فالكثير منهم ما زال على ثقافة الحجاج الدموية، وإن فعلوه فسيكون بأيديهم ولو بوحي من فرعون العالم أمريكا ففرعون لم يمارس السحر بنفسه بل كان عنده من السحرة العدد الكافيrlm;..
ولكن بيننا وبين هذا الفهم مسافة ثلاث سنوات ضوئية بالضبط؟
التعليقات