في خضم الذعر الذي أحدثته أعمال ايهود باراك في صفوف أهالي غزة خلال الاسابيع الثلاثة اثناء الحرب الأخيرة، كانت هناك ميول واضحة لدى أقطاب السياسية في إسرائيل في تسجيل المواقف الانتخابية من خلال الحرب ونتائجها وتداعياتها، فيما كانت هناك أصوات عديد من الحاخامات ورجال الدين الداعيين للسلام غير مسموعة.
وفي وقت يتطلع الاسرائيلي نحو مجتمع أكثر أمنًا وراحة يبعد عنه شبح quot;الصواريخ quot; المزعجة بأي ثمن كان، ولو أدى ذلك الى حرق الاخضر واليابس ولو كان ذلك على حساب مبادئه الدينية والأخلاقية المفترضة، فإن الصورة النموذجية لإسرائيل في أوروبا والعالم بوصفها دولة علمانية ديموقراطية ليبرالية متحضرة بدأت تتلاشى وتضمحل تحت وطأة المشاهد اللانسانية واللاخلاقية التي مورست تجاه القطاع.
كما ان العالم قد ضاق ذرعًا بحجج اسرائيل في أروقة الأمم المتحدة حول قتل المدنيين، وهي التي لم تلتزم يومًا بمقرراتها. الأمر الذي أثار العديد من علامات الاستفهام لدى quot;محايدي العالمquot; ومثقفيهم حول جدوى دعم quot;الليبراليةquot; الاسرائيلية في ظلّ السلوك العنصري الذي ترتكبه بحق الآخرين، حيث بدا للرأي العام الغربي أنه من المؤسف حقًّا ان يكون أولئك الناجيين من محارق النازية هم من صبّوا القنابل الحارقة الفوسفورية على رؤوس الأطفال.
لقد كانت اسرائيل وحتى وقت قريب هي مسألة جوهرية وتحتل مركزية في الفكر الليبرالي الأوروبي والأميركي وأيديولوجيته، وقد تغاضى عن بعض سياساتها العنصرية المهينة والمشينة بحق الانسانية في ظلّ الحروب السابقة لا سيما مع غياب الصوت والصورة والاعلام العربي.
غير أن الأمر قد تغيَّر اليوم مع النقل المباشر لوقائع الحرب مما وضع اسرائيل أمام مأزق أخلاقي حقيقي لا يمكنها تفاديه بحالٍ من الأحوال، وهو الذي دفع بعدد لا يستهان من اليهود أنفسهم في شتى بقاع الأرض الى الاعلان عن عدم رضاهم عما يجري من قتل للأبرياء في غزة.
بالمقابل فان الاتفاقات جميعها التي ابرمها العرب مع اسرائيل، ووُصِفت زورًا بأنها اتفاقات quot;سلامquot; كانت خافية عن الشعوب، ولم تؤتي أُكلَها المرجوة، والسبب الرئيس ان quot;سلام الانظمة الشكلي quot; لا يحقق عيشًا سلميًّا بين الشعوب، وانما كانت الصورة الوحيدة التي تظهر لتلك الاتفاقات هي في كونها وسيلة للتقرب من دوائر القرار الاسرائيلي، اي انها اتفاقات مصلحية لا سلمية وبالتالي فإن المصالح ستتبدل بطبيعة الحال بتبدل الأطراف والانظمة المستفيدة فيما الصراع بين الشعوب سيبقى قائمًا.
مواجهة الضمائر اللاهوتية:
وبعيدًا عن السياسية التي لا تعرف quot;دينًاquot; ولا تقيم للانسان اعتبارًا الا بالقدر الذي يحققه لها من مصالح، فإننا كأفرادٍ أحرار نتجاوز الانقسامات الدينية ونترفع عن استغلالات البعض لمضاميين الاديان السماوية، كما اننا لا نؤمن بجدوى الأعمال العسكرية وندين شتى أنواع العنف، نجد ان مهمتنا الأولى تكمن في مواجهة quot;الضمير اليهوديquot; ومواجهة quot;الضمير الاسلاميquot; على حدٍّ سواء، وهو أمر يتطلب منَّا وقبل كل شيئ اهتمامًا أخلاقيًّا وثقافيًا وفكريًّا من النوع العميق و الجذري، فلا يكفي ان نحمل صور اشلاءالأطفال ونبكي كما لا يجوز لليهود ان يحملوا صور محرقتهم كجواز مرور لانتهاك حقوق الآخرين، بل لا بد من خطاب فكري متنوّر مركب يتوجه للإنسان مهما كان انتماؤه، ويتعامل مع التجربة الاسرائيلية والفلسطينية سواء بسواء.
وهذا أمر يتطلب من العرب فهم عميق للمجتمع الاسرائيلي ودراسة الديانة اليهودية بكل مذاهبها، كما على اسرائيل الاهتمام بتراث المسلمين والمسيحيين ودراسته بتروٍّ وعمق، وعلينا ان نكفّ عن وضع كلّ الاسرائيليين في خانة الأعداء كما على الاسرائيلي ان يكف عن وضع شعوب الأرض في خانة quot;السائمةquot;، بل لا بد من التركيز على البعد الاخلاقي والانساني في التراث اليهودي ومساءلة الضمير اليهودي، والخروج من المقارنة الحضارية فلا المسلمون الحاليون خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس وليسوا أسوأ أمة عرفتها البشرية، كما ان اليهود الحاليين ليسوا شعب مختار، كما أن بقية شعوب الأرض ليست شعوبًا quot; سائمةquot;، أننا ببساطة quot;نحن على ما نحن عليهquot; وعلينا الخروج من عبثيتنا العقائديةhellip;
هناك العديد من الاصوات الاسرائيلية اللاعنفية مغيبة، ومن الممكن من اختيار محدثيين من الجانب اليهودي من داخل اسرائيل يكون التحاور معهم على قاعدة مبدأية وهناك اسماء عدة جديرة بالاهتمام مثل ستانلي كوهين و اسرائيل شاحاك وغيرهما كثر ممن رفضوا الأصولية والتطرف، كما أن لدى العرب عدد لا يستهان به من مفكري التنوير الذين لايتسع المقام لذكرهم.
وفي هذا السياق فإنه من الجيد تفعيل جهود مقررات المؤتمر الثالث للأئمة والحاخامات من أجل السلام ، الذي عقد اواسط كانون الاول الماضي في باريس وشاركت فيه اسماء بارزة مثل مارك رفايل غويد: الحاخام الأكبر السابق لتجمع اليهودية التقليدية في جنيف ورئيس مؤسسة العلاقات بين الأديان للجذور والأصول، والسيد دودو دييني المقرر الخاص للأمم المتحدة حول الأشكال الحديثة للعنصرية والتمييز العنصري والكزينوڤوبيا (كراهية الغرباء) وعدم التسامح (فرنسا)، و غسان مناصرة: مدير المركز الثقافي الإسلامي في الناصرة... وقد التزم المنسقون بتعميق المواضيع التي بحثت في ورش عملهم الخاصة وهم أكدوا في بيانهم على التزامهمً، بلا توقف وبشكل علني، بفضح وإدانة كل أشكال العنف والإرهاب وكل أشكال الظلم المرتكب ضد الأفراد والمجموعات باسم الله و/أو باسم دياناتهم وكتبهم المقدسة. كما يؤكدون على عزمهم بأن يكونوا حرّاس فاعلين لقدسية السلام.
وانقل المقررات للقارئ كما وردت في البيان:
bull;جمع مبادرات واقتراحات السلام التي قدمها القادة الدينيون لنشرها وتبنيها.
bull;تنظيم وتأمين مشاركة منهجية للنساء والشباب في وضع برامج تربوية تتعلق بالسلام.
bull;مساندة وتنسيق وتوسيع المؤتمرات والنشاطات القادمة التي ستنظمها مؤسسة quot;صادقو الوعدquot; من خلال برنامجها quot;أئمة وحاخامات ومسيحيين من أجل السلامquot;.
bull;توسيع شبكة الشركاء والمشاركين على أساس برنامج الأونيسكو لمختلف الأديان وبرنامج quot;أئمة وحاخامات ومسيحيين من أجل السلامquot;.
bull;عند الأزمات والصراعات، اتخاذ موقف موحد يدعو إلى القيم الأخلاقية والسلمية التي تدعو إليها الديانات التوحيدية الثلاث (كالدفاع عن قدسية السلام وقدسية الحياة)
bull;صياغة شرعة قيم حول الديانات بحيث تصبح (هذه الشرعة) كتيبًا حقيقيًا quot;للعيش المشتركquot; (كتيبًا) ينشر من خلال كل وسائل الاتصال ويؤكد على القواعد الذهبية المشتركة في هذه الديانات.
bull;تشكيل، ومن دون أي ابطاء، لجنة quot;تمثيليةquot; من الأئمة والحاخامات والمسيحيين الذين سيخاطبون السلطات السياسية نيابة عن جميع أعضاء quot;المؤتمر الدولي للأئمة والحاخامات والمسيحيين من أجل السلامquot;، وكل من أراد الالتحاق بهذه الحركة. وستقدم هذه اللجنة quot;الطلبات الإجماعية للمؤتمرquot; إلى السياسيين مباشرة. وهذه الطلبات ستكون من أجل تسهيل حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
أخيرا، ما كنت بصدد طرحه هو ربما موجود ضمن حلقات نقاشية نخبوية ولكنه غير مفعّل، كما يبقى الفكر المستقل واللاعنفي غير مسنود من الجانب السياسي الذي لا يتعامل مع المواقف الكارثية الا بسياسة العصا (وفي بلادنا) بلا جزرة، وباختصار فإن الوضع اليوم مؤاتي جدا لطرح حوار مفتوح لتوليد عملية سلمية أصيلة يتولاها هذه المرة مثقفون مستقلون آمنوا أن حياة الانسان والسلام الحقيقي لا يكون بحرمان الآخرين منه! وغدًا ربما يكون قد فات الأوان!
[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com