بصدور كتاب quot;أصل الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعيquot; (5981) وكتاب quot;أصل الإنسان المرتبط بالجنسquot; (1871) وجّه داروين (1809-1882) ثلاثة اهانات جارحة لأوهام رجل الدين النرجسية عن نفسه، وعن معتقداته وعن العالم الذي يعيش فيه. كان يتوهم أن الله خلقه على صورته واستخلفه في الأرض، فإذا بداروين يُعيد أصله إلى مملكتي النبات والحيوان. والأدهى، إلى أكثر الحيوانات إثارة لاحتقاره: القرد! ولسبب واضح عيّره أسقف كانتبري: جَدك أنت قرد؛ كان يتوهم أن حياة كل حي محكومة بالانتخاب الإلهي الحكيم؛ فإذا بداروين يأمره، صحح خطأك؛ بل إن الانتخاب الطبيعي، والصدفة العمياء الملازمة له، هو صاحب الكلمة الأخيرة في تقرير مصير الكائنات الحيّة؛ كان يعتقد أن الله قد خلق الكون والكائنات كما هي الآن في 6 أيام فقط لاغير لغاية وحيدة هي خدمة الإنسان، فإذا بداروين يفاجئه بأن هذه الكائنات لم يخلقها خالق بل تكونت بنفسها وتطوّرت عبْر صور لا حصر لها إلى أن وصلت إلى صورتها الحالية التي ليست صورتها النهائية، فهي محكومة بتطور متواصل جسديا وذهنيا، وأنه لا توجد غاية وراء تكوّنها. إنها غاية نفسها.
مازال التقدم العلمي، خاصة في علوم الكائن الحي، يصبّ كل يوم تقريبا الملح على جروح رجل الدين إيّاه. قدمت الكيمياء لعلم الباليونطولوجيا (= علم دراسة أحافير الكائنات الحية التي تواجدت خلال العصور الجيولوجية) اداة تحديد تاريخ الأحافير الحيوانية والبشرية بدقة غير مسبوقة مقدمة البراهين القاطعة على صحة معاينات داروين، مضيفة إليها اكتشفات أخرى في الاتجاه الدارويني لتزيده عمقا: جميع الكائنات الحية تطورت من أشكال بسيطة إلى اشكال دائما أكثر تعقيدا وعبر مليارات وملايين السنين. فمثلا، قدم الميكروسكوب الالكتروني البرهان على أن جميع الكائنات الحية الخلوية تمتلك النواة ذاتها لجميع الحيوانات الخلوية الأخرى. quot;هذه الوقائع وغيرها كثير (...) تفرض فكرة الأصل الوحيد لجميع الكائنات الحية. مادة Substance جميع الحيوانات البدائية توارثناها على مرّ الأجيال وسنظل نتوارثها إلى الأبد الأبيد ما ظل كوكبنا يتلقّى نور الشمسquot; (En. Universalis p. 52).
على ضوء هذه الوقائع العلمية نفهم ردود فعل أنصار نظرية الخلق المعادية لنظرية التطور. ما هي مرجعية الخَلقيين للرد على علوم نظرية التطور مثل البايلوجيا؟ هي إحدى روايتي سفر التكوين عن الخَلق التي هي في الواقع الرواية الوثنية البابلية - السومرية التي ترجمها أحبار السبي البابلي في القرن 6 ق. الميلاد من الأساطير البابلية والسومرية التي دونّت بالخط المسماري في القرن 18 ق. الميلاد القائلة بأن الكون والكائنات خُلقت دُفعة واحدة في 7 أيام صارت في سفر التكوين 6 أيام، والحال أن الفيزياء الفلكية تثبت أن الكون بدأ يتكون منذ 15 مليار سنة، وأن الحياة بدأت تتطور من الباكتريا وحيدة الخلية في المحيط البدائي منذ 3،7 مليار سنة... وأنها ما زالت تتطور، وأن رهان التطور بالنسبة للحيوان بما فيه الإنسان هو تطور الدماغ. الدماغ هو مركز التطور. كان دماغ الإنسان يزن 400 غرام منذ مليوني عام وهو يزن اليوم أكثر من 1300 غرام مما يجعله أكبر دماغ حيواني. يزن دماغ الفيل أكثر من 5 كيلو غرام، ومع ذلك فهو أصغر بعشرات المرات من دماغ الإنسان قياسا لوزن الإنسان إلى الفيل. بالمناسبة الفيل هو الحيوان الوحيد الذي يدفن موتاه تحت القش مثلما يدفن الإنسان موتاه تحت التراب.
الصراع متواصل منذ 150 عاما بين نظريتْي الخَلق والتطور فأيهما ستكسب الجولة حسب قانون الانتخاب الطبيعي، الأقوى حجة، أو قانون الانتخاب الحضاري، الدارويني هو الآخر، الأحق بالجدارة؟ نظرية التطور. المجموعة العلمية العالمية مجمعة عليها. وقطاع عريض من سكان المعمورة يصدّقها 80 بالمئة في اوروبا مثلا. يقال أن أعداءها أقوياء في امريكا الشمالية 40 بالمئة يعارضونها بفضل دعاية الانجيليين وبمساعدة أقصى يمين الحزب الجمهوري والرئيس السابق بوش. لكن قوتها لا تخفي أنها في موقع دفاع يائس على الأرجح. مطلبها الذي طالما كرره بوش هو quot;تدريسها جنبا لجنب مع نظرية التطور في التعليم العامquot;. لكن دون جدوى. كاتب هذه السطور تطوّري وكم سيكون سعيدا لو أن صنّاع القرار التربوي في أرض الإسلام يسمحون بتدريس نظرية التطور جنبا لجنب مع نظرية الخلق في التربية الدينية للصفوف الإعدادية والثانوية المقصاة اليوم منها كليا لصالح نظرية الخلق التي تُدرس من الابتدائي إلى العالي!
سذاجة نظرية الخلق المتثبّتة في القراءة الحرفية لرواية سفر التكوين عن خلق الكون والإنسان والأرض التي يقولون أن عمرها 10 آلاف عام والحال أن علم الجيولوجيا يثبت أن عمرها 5،4 مليار عام، دفعت بعض العلماء المؤمنين إلى أن يقدموا سنة 1990 نظرية quot;القصد الذكيquot; Intelligent design أي القصد الإلهي. من بين هؤلاء البيولوجي الشهير Francis Collins الذي أشرف طوال 15 عاما على حلّ شفرة الجينوم البشري الواعدة بثورة علمية غير مسبوقة خاصة في البايلوجيا التطورية. نظرية القصد الذكي تتبنّى نظرية التطور. كل ما تقترحه هو إحلال القصد الإلهي محل الصدفة العمياء في الانتخاب الطبيعي. بالمناسبة، الصدفة، في مفهوم داروين تخفي quot;جهلquot; السبب. أي، قد تكون قانونا لم يُكتشَف بعد. وتتبنى خاصة الفصل بين الدين والعلم لانتماء كل منهما إلى حقل معرفي مختلف عن الآخر؛ أجوبة العلم بَعْدية، أي بعد امتحان الاطروحات النظرية بالتجريب العلمي. وهي عامة يُسلّم بها كل ذي عقل سليم. أما أجوبة الدين فهي سابقة عن كل تجربة. برهانها الوحيد على صحتها هو نصها الديني الذي هو مجرد معتقدات ذاتية خاصة بالمؤمنين بها.
فرضية القصد الذكي تقدم لعقلاء رجال الدين خاصة في أرض الإسلام حيث الجهاد في العلم ما زال هاذيا، مخرجا مريحا للتخلص من أسطورة الإعجاز العلمي في القرآن، وتجنيب الإسلام صداما داميا مع العلم سيكون هو فيه الخاسر الأكبر. الثورتان العلمية والاتصالية، تتعاونان على إدخال حقائق العلم إلى كل بيت في الكوكب بما فيها أحياء الصفيح. يقول سكرتير أكاديمية العلوم في فرنسا في كتاب صدر في 1990: quot;بإمكان أي باحث اليوم وأي تلميذ غدا أن يتابع على الكومبيوتر تقليد sumulation قصة الحياة على الأرض منذ 3،7 مليار سنة إلى اليوم خلال نصف ساعة فقطquot;.
كان جان بول الثاني رائدا في مجال الاعتراف الديني بنظرية التطور الداروينية عندما اعترف أمام أكاديمية العلوم الخاصة بالفاتيكان (هل للأزهر وقم أكاديمية علوم؟) سنة 1996: quot;نظرية التطور أكثر من فرضيةquot;. بل هي علوم دقيقة لا مفر للمؤمنين من الاعتراف بها والانتقال من القراءة الحرفية لنصوصهم المؤسسة إلى القراءات المجازية والرمزية والصوفية والتاريخية...
سجّل داروين في أصل الأنواع معاينة الانتخاب الطبيعي. أما في أصل الإنسان فقد قدم اقتراحا لوضع حد، في عالم الإنسان، للانتخاب الطبيعي، أي الاقتتال على المكان والموارد، الذي يحكمه قانون الغاب، بتسخير قانون مضاد له هو quot;الانتخاب الحضاريquot;. خلاصته أن الانتخاب الطبيعي نفسه طوّر عند الحي quot;الغرائز الاجتماعيةquot; الحضارية، التي من دونها يستحيل الاجتماع البشري، مثل الواجب الأخلاقي، التعاطف، التضامن، مساعدة الضعيف، الإثار على النفس، التضحية من أجل الآخرين، الانفعال أمام الجمال الخ. الانتخاب الحضاري لا يحكم على المريض والضعيف والمُعاق بالدوس تحت قدمي الأقوى بل بالمساعدة والعلاج.
في ختام هذه الفقرة العامة أقدم للقارئ ما أنجزته علوم نظرية التطور الداروينية منذ 150 عاما. سأعطي الكلمة لعالِم الباليونطولوجيا في الكوليج دو فرانس Yves Coppens الذي يقول أنّ الإنسان ليس منحدرا مباشرة من الشامبانزي بل من جد مشترك هو quot;قرد راماquot;، نسبة إلى أحافيره التي عثر عليها في معبد الإله الهندوسي، راما. الإنسان يشترك قطعا مع النبات والحيوان في شجرة النسب الكبرى (المنشورة هنا). فنحن أبناء عم الفيروس والباكتريا والغزال والقرد والنبات... quot;درجة القرابة بيننا وبين هذه الحيوانات هي الوحيدة المختلفةquot;. لأننا انحدرنا جميعا من الباكتريا التي ظلت، في الماء، وحيدة الخلية طوال ملياري سنة. في بداية الملياريْ سنة التاليتين ظهرت الحياة في كائنات حية مائية وحيدة الخلية لكن مع نواة ذات كُودْ لنقل المعلومات الجينية. ستتطور من هذه النواة خلال 1،3 مليار سنة جميع الأنواع الحية، النباتية أولا ثم الحيوانية؛ ستظهر، في بداية المليار الرابع، الكائنات الأولى متعددة الخلايا، نباتية أولا ثم حيوانية. قُبيْـل نصف المليار الأخير سيتسارع التطور، ستظهر، دائما في الماء، الكائنات الحية ذات الهيكل العظمي الداخلي. بعد 400 مليون سنة ستظهر النباتات أولا ثم الحيوانات الفقرية. نحن البشر ننتمي إلى نوع من هذه الفقريات. ثم ظهرت الزواحف والثدييات. تطورت من هذه الأخيرة، منذ 200 مليون سنة أولا حيوانات بَيوضة (= تبيض) ثم حيوانات وَلُودة. بعد 70 مليون عام ستتطور من هذه الحيوانات الولُودة قرود. بعد 40 مليون عام ستتطور منها قرود عليا. ستتطور من هذه القرود العليا عائلة أشباه البشر Hominideacute;s . بعد 8 مليون عام سيتطور منها البشر. عاشت هذه العائلة ملايين السنين في أفريقيا. استطاعت، في صورتها ما قبل البشرية وقبل 3،5 مليون عام، تصنيع أول آلة دشنت تحويل الطبيعة إلى ثقافة. ما الذي ميز أعضاء هذه العائلة والقرود العليا عن أشباه البشر؟ أدمغة دائما أكبر فأكبر بفضل غذاء أكثر تنوعا. فقد أصبحوا قـَوارِت Omnivores أي يقتاتون بكل شيء من نبات ولحوم. اختراعهم لآلات أكثر تطورا وتنوعا جعلهم أكثر فضولا أي، أكثر حبا للمعرفة والاكتشاف والتنقل والتفكير. انتشر هؤلاء الأفارقة في كل من أفريقيا لم يغادروها خلال 500 ألف عام. ثم بعد 2،5 مليون عام بدأوا ينتشرون في quot;أوراسياquot; Lrsquo;Eurasie (= الاتصال القديم بين القارتين الأوروأسيوية والأمريكية الشمالية). سيصلون بعد 100 عام إلى أمريكا والاقيانوس وجزر المحيط الهادي. من المفارقات أن أفريقيا التي كانت مهد أول تكنولوجيا اخترعها البشر غارقة اليوم في التخلف التكنولوجي بسبب نقص الاستثمارات! المسؤول؟ هو أنانية الدول الغنية. هذا العقوق يأباه قانون quot;الانتخاب الحضاريquot; الدارويني: مساعدة الأغنى للأفقر والأقوى للأضعف.
quot;أدم العلمquot; هو أفريقي أسود، كما يقول، كوبنس. وهو أبو البشرية من صُفر وسُمر وسود وبيض. لون بشرتهم أكتسبوه من طبيعة المناخات التي عاشوا فيها. ليس له أدنى تأثير على حجم واشتغال الدماغ. لكن ما زال عرب سُمر في السودان يقتلون مواطنين لهم أكثر منهم سمرة في دارفور! كعربي من قبيلة بني هلال، أشعر بالعار من هذه العروبة المتوحشة. حسنا فعلت ليبيا سنة 2006 بإلغاء تدريس القومية العربية والجهاد وحفظ القرآن؛ لأن الحفظ يصيب الملكة النقدية بالضمور.
أقدم حجارة منحوتة تعود إلى 1،5 مليون عام. أول اكتشاف للنار يعود إلى نصف مليون عام. منذ 40 ألف عام اكتشف الإنسان الفن: النقش على الحجارة. ومنذ 350 ألف سنة أكتشف الدفن. أي، اكتشف الدين: الرغبة النرجسية في الخلود بدفن موتاه إعدادا لهم لحياة في عالم آخر بعد الموت. يقول كوبنس: quot;تطور القرد إلى إنسان بفضل العمل والفكر الرمزيquot; أي بفضل نحت الصُوان والدفن والنقش على الحجارة والرسم على الجدران؛ بفضل الدين الفن. عندما ننظر إلى شجرة الحياة/ كما يقول كوبنس، نلاحظ في أعلى غُصنَيْها الإنسان والشامبانزي. إذا نزلنا قليلا، 8 مليون سنة، نرى المفرق المشترك، أي الجد المشترك بين الإنسان وابن عمه الشامبانزي اللذين يتقاسمان 99 بالمئة من الجينيات. يتقاسم الحمار والفَرس 96 بالمئة من الجينات وتلدُ منه البغل. إذن الشامبانزي والإنسان قادران على الإنجاب من بعضيهما.
يا صناع القرار التربوي إلى متى تحرمون أبناءنا من دراسة نظرية التطور في الإعدادي والثانوي كما في بلدان العالم الأخرى؟ إنها، مع الفلسفة والعلوم الإنسانية، كفيلة بتحصين أدمغة الأجيال الصاعدة من التعصب الديني بفضل تطعيمها بالفكر النقدي الذي في غيابه الفاجع، مثلما هو الحال اليوم، تعيث الخرافات والأساطير فسادا فيها. الفكر النقدي يعلم الأجيال الطالعة محاكمة جميع الادعاءات بطرح سؤال الغايات، سؤال المعنى: لماذا؟ مثلا لماذا التعصب؟ لماذا الحرب؟ لماذا تدمير الطبيعة؟
تحلّوا بالشجاعة الفكرية والسياسية ودشنوا تدريس نظرية التطور بتدريس هذا النص السّهل. في مطلع السنوات 1980، اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية تخلفها التربوي عن اليابان، فشكلت لجنة تقص للحقائق لمراجعة المناهج وطرق التدريس وتكوين المدرسين لتصبح أكثر استجابة لحاجة الأمة الأمريكية. استهلت اللجنة ديباجة تقريرها للحكومة الفيدرالية بهذه الكلمات: quot;لو أن دولة معادية فرضت هذا البرنامج التعليمي العقيم على الشعب الأمريكي، لاعتبرنا ذلك سببا مُوجبا للحرب عليها. لكن ما العمل، ونحن الذين فرضناه على أنفسنا؟quot;
99 بالمئة من صناع القرار في الدول العربية والأفريقية لن يترددوا ndash; إذا تشجعوا- في تبني هذا النقد الذاتي المعبر عن نضج الشخصية الجمعية النفسية والفكرية للأمة الأمريكية. فمتى نصبح في النقد الذاتي والنضج النفسي والفكري أمريكان؟ متى؟
التعليقات