توطئة
ولد إسماعيل مظهر بالقاهرة، في سـنة 1891. وكان أول اتصاله بعالم المعرفة بعد القراءة والكتابة، بعض من آيات القرآن، ومجموعة هائلة من الأساطير والحكايات الخرافية. ولعل هذه الخرافات هي التي حركته لكي يقوم بنقدها وبشدة بعد أن سخر منها طفلا. من هنا كان اتجاهه نحو العلم، باعتبار أنه يقدم النقد الموضوعي لتلك الأساطير التي رآها تهيمن على مجتمعه.
وبدأ ينكب على الفلسفة القديمة حوالي 1914، يقرأ كل ما يمكن أن تصل إليه يده من التراث والثقافة العربية، حينما وقعت يده بالصدفة على نسخة من كتاب دكتور شبلى شميل quot; فلسفة النشوء والارتقاءquot; (هكذا كانت تسمى نظرية التطور آنذاك)، حيث يقول مظهر عن نسخة هذا الكتاب: quot; أحدثت قراءتها في ذهني من الانقلاب ما يعجز قلمي عن التعبير عنه أو وصفه. فدلفت بقدمي في مغارة الآراء المادية quot;(1) ( ). وقرر أن يترجم كتاب دارون ذاته. ولمع نجمه بداية من 1918 بعدما فرغ من كتاب دارون quot; أصل الأنواع quot;، وأتم نشره. بعد إطلاعه على مذهب دارون في مظانه الأصلية، أطلع على دراسات كثير من علماء التطور المعروفين مثل: هيكل، وولاس، وشميث، ونايجيلى، وهكسلى، بالإضافة إلى آرثر طمسون، وجوهانش، وويزمان، ومندل في الوراثة.
وظل مظهر من أكبر المتحمسين لمذهب دارون فى التطور إلى أن مات فى 1963، هذا ولكي يدفع قرائه إلى ذلك الفكر الجديد كان يكتب في صدر مجلته quot; العصور quot;: quot; حرر فكرك من كل التقاليد الموروثة، حتى لا تجد صعوبة في رفض رأى من الآراء، أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه نفسك وسكن إليه عقلك، إذا انكشف لك من الحقائق ما يناقضه quot;.
من هنا أوقف إلى جانب ترجمته لأصل الأنواع ثلاثة أعمال من أعماله الكثيرة والمتنوعة على نظرية التطور الداروينية وهي:
ـ مذهب النشوء والارتقاء (بحث انتقادى علمى فلسفى فى مذهب النشوء والارتقاء، وأثره فى الانقلاب الفكري الحديث)، الكتاب الأول، مذهب النشوء عامة، 1923، القاهرة.
ـ ملقى السبيل فى مذهب النشوء والارتقاء وأثره فى الانقلاب الفكري الحديث، المطبعة العصرية، القاهرة، 1924.
ـ شبلى شميل، القاهرة، 1946، وناقش فيه رؤية وأعمال شميل في نظرية التطور.
التطور البيولوجى لدى مظهر:
تأتى فكرة التطور لدى مظهر كنتيجة لجهد علمى للإنسانية على مر تاريخها الطويل، شارك فيها اليونان والعرب ويستعرض مظهر تاريخ التطور فى العصر الحديث، بداية من القرن الثامن عشر على يد بافون، ويتوقف عند لامارك وبخاصة فى كتابيه quot; فلسفة الحيوان quot; و quot; تاريخ الفقاريات الطبيعي quot; لما لهما من أثر في تنبيه الأذهان إلى أن التحول فى العالم العضوى يعتبر نتيجة لقوانين طبيعية صرفة.
ويصل التطور إلى ذروته مع دارون في كتابه quot; أصل الأنواع quot; فى 1859 لتنتهي المعركة لصالح إثبات المذهب. ومظهر يتبنى طرح دارون كاملا، باعتباره الطرح الصحيح، البعيد كل البعد عن التأويلات التى تمت على أفكار دارون ذاتها، وساهمت إلى حد كبير فى رفض مذهب التطور في الشرق، وهو يقصد هنا كتاب شبلي شميل quot;شرح بخنر على دارونquot; وهو الكتاب الذي روج للنظرية على قاعدة الإلحاد المستقى من فكر الطبيب والفيلسوف الالماني الملحد بخنر، وهو ماكان يعارضه مظهر. ولهذا السبب نفسه يعود قرار مظهر بترجمة كتاب quot; أصل الأنواع quot;، لكى يضع بين أيادى مواطنيه حقيقتين فى غاية الدلالة:
الأولى: هى أن quot; مذهب النشوء لا يبحث إلا فى تلك القوانين الثانوية الجزئية التى تتحكم فى وجود الأفراد وتثبت تسلسل بعضها متحولة فى حلقات من النشوء التدريجى quot; (2) ( ).
الثانية: quot; أن دارون تناول ببحثه العلمى عصر quot; ما بعد الخلية quot; التى هى أساس الحياة بكل صورها، ولكنه لم يعرض للبحث فى عصر quot; ما قبل الخلية quot; ليعرف كيف نشأت الحياة فى تلك الصورة البسيطة، ومن أين هبط ذلك السر الرهيب: سر الحياة الذى جعل من المادة الجامدة كائنا حيا quot;(3) ( ). وبهذا يضمن مظهر إزاحة العقبات التى وقفت حائلا دون الإقرار بالمذهب.
وترجمته للكتاب وتقديمه للقراء هو العمل الوحيد المناسب الذى يمكنه أن يستخلص منه الحقيقة التالية: quot; ولا يستطيع أحد من الذين استعمقوا فى دراسة كتاب أصل الأنواع أن يقول أن العلامة دارون كان مفكر للالوهية. وغاية ما يذهب إليه ذلك الرجل الكبير أن تفسير بعض حقائق الكون حسب الرأى الذائع فيها بين فئات من رجال العلم واللاهوت لا تنطبق على الواقع المشاهد quot; (4)( ).
ويضع مظهر النظرية كما فهمها من كتاب دارون ذاته بأن quot; الأنواع المختلفة نباتا كانت أم حيوانا ومعها الإنسان، إنما نشأت تدريجيا عن طريق الاحتفاظ بمختلف التحولات التى تنشأ فى أفراد كل منها، وهذا التحول استغرق احقابا طويلة جهد الطول، وفقا لما يقتضيه تأثير سنن طبيعية دائمة التأثير فى طبائع الأحياء quot; (5)( ).
ويستعرض مظهر رحلة تطور الأحياء عبر الأحقاب الزمنية التى أثرت بفعلها على نشوء الأنواع، إذ ظهرت الحياة فى أول صورها فى quot; البروتوبلازم quot; وهو الأصل الذى تعود إليه كل صور الحياة، نباتية أو حيوانية. وحينما تتضمن البروتوبلازم quot; النواة quot; تتكون الخلية لأول مرة، ويعود إلى هذا التكوين الأول سائر الأحياء سواء أكانت مكونة من خلية واحدة أو خلايا متعددة. والحيوانات متعددة الخلايا كانت فى بدايتها بسيطة التركيب كحيوان المرجان وقناديل البحر.. إلخ، وبعد هذا ظهر الحيوان الدودى الصورة (كالرخويات والشوكيات والقشريات) وأخير ظهرت الحشرات. تم حدثت صورة جديدة من الحيوان ذات حبل متين يمتد بطول الجسم، وكانت المرحلة السابقة للتطور نحو تكوين quot; الفقاريات quot; المؤلفة من أجزاء عظمية. وكانت حيوانات مائية نشأ منها فيما بعد الأسماك. ومن هنا انقسمت الأحياء قسمين: الأول منها معدومة الفقار، والثانى ذوات الفقار.
وفى مرحلة تالية ظهرت أسماك متطورة تستطيع أن تعيش فى الطين أوقات الجفاف، ومن هنا عاشت بجهازين للتنفس أحداهما عبارة عن رئات أولية.
ومن ذوات التنفس نشأت البرمائيات كالضفادع، ومن البرمائيات نشأت الزواحف كالتماسيح. ومن أحد فروع الزواحف نشأت الطيور وذوات الثدى. ومن الثدييات البيوض نشأت ذوات الكيس كالكنغر، ومنها أيضا تفرعت شعب متفرقة من الأحياء مثل quot; الليامير quot; ومنها خرجت ذوات الذيول وفاقدى الذيول. ويرى مظهر أن مسألة نشأة الإنسان عن هذه الليامير ما زال محل شك العلماء، إلا أنه يميل إلى فكرة العلماء فى ترجيح أن يكون قد خرج عنها سلف من الأسلاف المشابهة للبشر، تطورت عنه شعب كثيرة منها الإنسان.
ومن هنا يؤكد مظهر على quot; أنه بالتطور قد وجدت جميع الكائنات الحية فخرج بعضها من بعض على طول الأحقاب الجيولوجية quot; (6) ( ). وهو فى نفس الوقت يؤكد على دور العوامل الطبيعية التى أدت فعلها إلى عملية التطور تلك ونشوء الأنواع بعضها من بعض، وهو يحصر هذه العوامل فى الآتي:
1 ـ الوراثة: والمقصود بها مشابهة صغار كل نوع (حيوان أو نبات) لآبائها.
2 ـ التحول: أن تتشابه أفراد كل نوع، إلا أنها غير متماثلة، بمعنى أنها ليست صورة طبق الأصل من بعضها.
3 ـ التوالد: ما يولد من النبات والحيوان بفعل الطبيعة أكثر مما يبقى بكثير، فالإسراف فى الإيجاد يقابله أيضا إسراف فى الإفناء.
4 ـ التناحر على البقاء: وهو عامل مستمر التأثير، بحيث أن كل نبات أو حيوان ينبغى عليه أن يجاهد غيره على ضرورات الحياة.
5 ـ بقاء الأصلح: وهو نتيجة للتناحر، بحيث تكون الأفراد الأكثر قدرة على مقاومة الأفاعيل الطبيعية أكثر قابلية للبقاء. وباستمرار فعل هذه العوامل أمكن للأحياء المحافظة على وجودها.
وينقلنا مظهر نقلة تتعلق بالإنسان فى إطار نظرية التطور، إذ يضع أمامنا بعض التساؤلات حول الإنسان، منها ما إذا كان الإنسان يتحول جسميا وذهنيا؟ وما إذا كان يورث هذه التحولات لأبنائه؟ ثم يتساءل حول هذه التحولات، وهل تعود لنفس الأسباب الطبيعية العامة؟ وما إذا كان الإنسان خاضعا للانحرافات الخلقية، وإن وجدت هل تعود لرجعى وراثية انتقلت إليه من طراز بدائى من الصور العضوية؟ وهل هناك سلالات مختلفة للإنسان كالحيوان؟ وكيفية تنوعها فى الاستيطان على الأرض؟ وما هو سلوكها الحيوى عند تهجين بعضها من بعض فى أجيال أنسالها؟ وما إذا كان مبدأ التنازع على البقاء يعمل عمله فى سلالاته مما يجر عليه انقراض بعضها؟ ويجيب مظهر على هذه الأسئلة جميعا بالإيجاب مستندا فى هذا إلى دارون الذى أثبت quot; أن الإنسان يعود بأصله العضوى إلى عالم الحيوان quot; (7) ( ). ومظهر فى هذا يستند أيضا إلى أسانيد نظرية التطور عندما يجد أن: ـ
1 ـ التركيب العضوى للإنسان يدل على انحداره من صورة أحط منه فى سلم الارتقاء. فالإنسان مركب على نفس الغرار العام لذوات الثدى، فشابهها فى عظامه وعضلاته وأعصابه وأوعيته الدموية وأمعائه ودماغه، وهو هنا يستند إلى ملاحظات هكسلى التشريحية.
2 ـ المشابهة بين الأنسجة والدم، ويعتمد هنا مظهر على كم كبير من الأمراض التى يمكنها الانتقال بين الإنسان والحيوان، وتأثير العقاقير فى كليهما، ويستند فى هذا إلى بعض الأنثروبولوجيين الذين قاموا بمقارنات بين سلوك الإنسان والقردة، ولاحظوا تأثير المشروبات الروحية والمنبهات والتدخين على كليهما، ليماثل بين أعصاب الذوق والجهاز العصبى فى كل من الإنسان والحيوان.
ويصل مظهر عبر أسانيده السابقة إلى نتيجة ترى quot; أن علاقة الإنسان بما هو أدنى منه فى عالم الحيوان، علاقة تتجاوز حد التشابه الظاهرى، بل تتخطى هذه العلاقة الظاهرية إلى علاقة النشأة والدم والاستعداد الفزيولوجى quot;(8) ( ). ويضيف مظهر إلى هذا مشابهة جنين الإنسان لأجنة الحيوانات الأقل منه مرتبة على سلم الارتقاء، سواء فى شكل القلب، أو نهاية العمود الفقرى الذى يظهر وكأنه ذيل كامل. ويعتمد على المشرح quot; بيشوف quot; عندما ينقل ملاحظته فى تشابه تلافيف الدماغ لجنين بشرى فى شهره السابع من حيث النماء والتكوين، لدماغ الجيبون من القردة عند البلوغ.
كما أنه ينقل ملاحظة المشرح quot; رتشارد أوين quot; فى أن إبهام القدم فى الإنسان وهو مركز الاتزان عند الوقوف والمشى، ربما يكون أخص تركيب تشريحى فيه. إلا أنه يورد ملاحظة أخرى لمشرح آخر هو quot; ويمان quot; الذى وجد تشابه إبهام القدم بين ذوات الأربع وبين جنين بشرى حينما يكون طوله بوصة واحدة.
3 ـ الأعضاء الأثرية والتى يشترك فيها الإنسان مع الحيوانات العليا، وهى أعضاء كان لها نفع خاص فى أسلافها، ولم يعد لوجودها حاجة فانضمرت وأصبحت آثارا لا تدل إلا على علاقة بالحيوانات التى ما زالت فى حاجة حيوية إلى هذه الأعضاء. ويبرز مظهر تفرقة داروين بين تلك الأعضاء الأثرية وبين ما يسميه بالأعضاء المتعطلة، وهى أعضاء قلت الحاجة إليها، وسوف تصبح فى خطوة قادمة أعضاء أثرية.
ويصل مظهر إلى مبدأ الانتخاب الطبيعى ليفسر ظاهرة الأعضاء الأثرية، إذ أن حالات الحياة بتغايرها تجعل وجود بعض الأعضاء مضرا بالأحياء، مما يدفع إلى أن تسارع الطبيعة بتعطيل تلك الأعضاء أو التعويض بأعضاء مناسبة للوضع الجديد لتتفادى بهذا انقراض الأحياء. ويعطى مظهر أمثلة لمثل هذه الأعضاء: كالعضلات السطحية عند الإنسان مثلا: وهى تحت فروة الرأس والعضلات المحركة للأذن وهى فى الإنسان أعضاء أثرية بينما تؤدى وظائف عاملة فى حيوانات أخرى. ويوضح مظهر أهتمام دارون بهذا الموضوع وبخاصة حينما يكرس فصلا فى إحصاء هذه الأعضاء الأثرية لدى كل من الإنسان والحيوان وبخاصة القردة.
التوالد الذاتى:
لم تحظ فكرة بقدر كبير من الأهمية لدى مظهر بقدر ما حظيت فكرة التوالد الذاتى، حيث وجد أن الفكرة تقف عقبة كؤود فى سبيل الإقرار بمذهب التطور فى الشرق الإسلامى، لذا حاول قدر إمكانه أن يبعد عنها شبح المادية ومن ثم إمكانية الإقرار بها دون أن يتعارض هذا مع الإقرار بفكرة الخلق. وتمثلت خطة مظهر أولا فى إبطال سلاح التوالد الذاتى لدى خصومه، وثانيا استعارة نفس السلاح للدلالة على عكس ما أريد به. لذا نجده يرد على فكرة بخنر التى ترى أنه quot; لم يبق أمامنا إلا مسألة التوالد الذاتى، التى هى اليوم المحور الذى يدور عليه علم الأحياء. فإذا أمكن أن نبين أن ظهور الأحياء إنما هو نتيجة طبيعية لقوى طبيعية، ظهرنا بمذهب دارون على كل ما تضمنه العالم العضوى ولم تخف علينا من خافية. لأنه أمر مقرر اليوم أن الحيوانات والنباتات، حتى أكثرها تركيبا، مؤلفة جميعها من الصورة العضوية الأولى، أى الكرية فقط، كما يعلم من تكوينها الجنينى quot;(9) ( ).
ومظهر يرى خطأ الفكرة السابقة quot; لأن الأجسام الحية إذا تكونت من خلية فهى إنما تتكون من خلية حية فيها القدرة على الانقسام والتغاير، فما هو ذلك السر المودع فيها الذى يسوقها إلى التحول والدور فى تلك النظرية المنظومة من النشوء والتعفن حتى تصير حيوانا أو نباتا؟ quot;(10) ( ). وليؤكد مظهر فكرته يقتبس من والاس رفضه للقول بإمكانية البرهنة على كيفية التوالد الذاتى فى الأجسام الحية إذا أمكننا البرهنة عليه فى الأجسام غير الحية، حيث أن quot; نواة الخلية الحية ليست شيئا كيماويا عويص التركيب، وفى الإمكان إعادة تركيبها ثانية إذا حللت. لكنها لا تكون نواة حية (والماديون) يتجاهلون ذلك كله. يتجاهلون القوة المدبرة الخفية التى تستطيع الخلية الحية بفضل تأثيرها، من الدور فى سلسلة التحولات، يستحيل إيضاحها بأى طريقة كيماوية أو ميكانيكية quot; (11) ( ).
استنادا إلى ما سبق وإلى مقولة دارون فى quot; أن الماديين لم يقيموا البرهان على تولد الحى من غير الحى quot; (12) ( )، يخرج مظهر بنتيجة غاية فى الخلط، حيث يتساءل quot; ما هو الفرق الحقيقى بين القول بخلقها، وبين القول بأنها تولدت ذاتيا، ما دمنا لا نعرف ماهيتها ولا حقيقتها. لأن كلا الأمرين يلزم العقل بأن فى الطبيعة قوة مبهمة غامضة quot;(13) ( ).
وهكذا نجد مظهر يدفع دائما بفكرة التوالد الذاتى خارج نطاق نظرية التطور، بحيث يجعل فكرة خلق الحياة أو تولدها ذاتيا، لا تمت بصلة للداروينية التى يفهمها مظهر على أنها تبحث فى نشوء العضويات بعد خلق الصورة الأولى، وليس قبل ذلك. وهنا يرى مظهر أنه إذا ثبتت صحة التوالد الذاتى فإن الماديين سيجدون أنفسهم فى إشكال أكبر حيث لن يعرفوا سر الحياة وتولدها. وبهذا ظن مظهر أنه استطاع أن يبطل هذا السلاح، بل ويوجهه ضد خصومه، لكى يكسب معركته النظرية التى افترضها من وراء ذلك ليقرر فى النهاية quot; أن المذهب بعيد عن البحث فى أصل الحياة، فلا شأن له بالبحث فى التوالد الذاتى، ولا فى القول بأن الحياة قوة مادية أو غير مادية، ذلك لأن المذهب مقصور على البحث فى نشوء بعض العضويات من بعض، بعيد عن البحث فى الأصل الذى تستمد منه حياتها. من هنا تزاح أكبر عقبة تقف فى سبيل القول بأن المذهب بعيد عن مخاصمة الشرائع المنزلة quot;(14) ( ).
موقف مظهر النقدى من المواقف الأخرى:
إن تبنى تطبيق نظرية التطور على المجتمع الإنساني والعلوم الإنسانية، أي كل ما يتصل بنشاط الإنسان الفكري في العلوم والآداب والفلسفة والدين.. إلخ دفع مظهر إلى اتخاذ موقف نقدي تجاه كل من كتب عن التطور قبله وبخاصة شميل والأفغاني. إذ ترتب على معالجات كليهما فى هذا الحقل، نتائج وقفت عقبة أمام مظهر الذى أراد إقامة مصالحة تاريخية فيما بين العلم والدين، لذا كان عليه أن يخوض معركتين على جبهتين مختلفتين وفى نفس الوقت. على الجبهة الأولى ضد من قال بالعلم فقط ورفض الدين، وعلى الجبهة الثانية ضد من قال بالدين ورفض العلم.
ويتبدى نقد مظهر لسابقيه هنا كمحاولة لإقامة طريق ثالث يقف بين الاتجاه العلمي الإلحادي والاتجاه الديني الغيبي، بحيث يستجيب بمحاولته تلك لنوازع التوفيقية التى ملكت حركته وأصبحت محور ارتكازه. ولهذا سوف نرى وحدة المنظور فى نقد مظهر لكل من شميل والأفغاني، حيث أنصب نقده لشميل على غياب الدين مع إقراره لنظرية التطور، بينما أنصب نقده للأفغاني على غياب العلم مع إقراره بالدين.
ومظهر مثله مثل معاصريه لم تكن لديه اجتهادات أو إسهامات علمية فى نظرية التطور سوى الشرح والتقديم والتبسيط، إلا أنه أراد بانتقاداته أولا: تعديل ما جاء على لسان شميل والأفغاني حتى يمهد الطريق للقبول بتوفيقيته، ولذا وجد أسبابه حينما رأى أن رفض الأفغاني ـ فى هذا الوقت ـ جاء متهورا ولا يستند إلى قاعدة علمية، بينما يرى أن شميل قد قدم دارون فى سياق بخنرى (مادي إلحادي). ثانيا: وضع شميل والأفغانى فى سلة واحدة، وبهذا حاول التغلب على الهم الذى لاحقه فى محاولة التوفيق فيما بين نظرية التطور والاعتقاد الدينى.
ونقد شميل والأفغانى معا، اعتبره هنا مرحلة لابد منها لكي يستطيع طرح تصوره عن نظرية التطور دون أن يعترض عليه أحد من العلمانيين أو الإسلاميين، ولنفس السبب نجده يركز فى نقده لشميل وبشكل حاد على النزعة المادية التى جعلته يستبعد أولا الآداب وثانيا الفلسفات القائمة على التصور وأخيرا الدين. بينما يركز فى نقده للأفغاني على جهله بحقيقة مذهب التطور، واختلاط المذاهب الفلسفية فى ذهنه، مستخلصا أن الأفغاني لم يفرق بين المباحث الأولية فى علوم حياة التاريخ الطبيعي ولم يفرق بين الرأي المادي فى أصل الكون، والمباحث الفرعية فى العلوم الحديثة، وردا على ما أورده الأفغاني عن دارون من أنه زعم أن أصل الإنسان قرد، يرى مظهر أن الأفغاني خلط بين قضيتين من قضايا العلوم الطبيعية، وهما قضية النشوء، وقضية أصل الإنسان، وهما موضوعا كتابيه.
هكذا وجه مظهر انتقاداته لكل من شميل والأفغاني مركزا على الجوانب التى أراد استبعادها فيما طرحه كل منهما، مثمنا بعض ما جاء فى هذا الطرح، مركبا منه رؤية تجمعهما معا على طريق جديد، هو طريق التوفيق الذى انتهجه إسماعيل مظهر، والذى قام لديه على أسس شديدة الخصوصية.

هوامش:
1 ـ إسماعيل مظهر، ملقى السبيل، المطبعة العصرية، القاهرة، 1924، صـ 5.
2 ـ إسماعيل مظهر، ملقى السبيل، صـ66
3 ـ إسماعيل مظهر، مقدمة أصل الأنواع لدارون، صـ 59
4 ـ إسماعيل مظهر، ملقى السبيل، صـ58
5ـ إسماعيل مظهر، مقدمة أصل الأنواع لدارون، صـ 37
6ـ إسماعيل مظهر، مقدمة أصل الأنواع لدارون، صـ44
7 ـ إسماعيل مظهر، مقدمة أصل الأنواع لدارون، صـ 49
8 ـ إسماعيل مظهر، مقدمة أصل الأنواع لدارون، صـ55
9 ـ إسماعيل مظهر، ملقى السبيل، صـ 57
10 ـ المرجع السابق، صـ 57
11 ـ المرجع السابق، صـ 58
12 ـ إسماعيل مظهر، ملقى السبيل، صـ 58
13 ـ المرجع السابق، صـ 62
14 ـ المرجع السابق، صـ 54

(أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة حلوان بمصر والحاصل على الدكتوراة من جامعة باريس 10نانتير
بفرنسا في 1991عن أطروحة بعنوانquot; اتجاهات نظرية التطور في الفكر العربي المعاصرquot;)