توفيت يوم أمس المطربة العراقية، عفيفة اسكندر،بعد صراع مع المرض، رحلت وحيدة في مستشفى في بغداد تاركة إرثًا وتراثًا غنيًا.
بغداد: وهكذا انتهت أسطورة عفيفة إسكندر... لفظت أنفاسها الأخيرة على سرير في مستشفى مدينة الطب في بغداد، فرحلت الروح الى بارئها بعدما صمدت لسنوات وهي تدافع بكل جمالها وحلاوتها عن جسدها الذي ما عاد يمتلك قدرة الوقوف ازاء التداعيات الصحية الخطيرة التي نالت منها ما بين هبوط في الدورة الدموية ونزيف في المعدة أو غيبوبة طويلة، بعد أن نالت منها الشيخوخة فلم يعد لها أي نشاط حركي خلال أشهر السنة الأخيرة على الاقل من حياتها، وليس لها إلا أن تتمدَّد علىالسريرتخلد إلى النوم لساعات. ولا يفيقهاسوىكوب عصير يرطب الجفاف ويحيي بعض الخلايا الذاهبة الى الفناء.
نعم ماتت عفيفة إسكندر عن عمر يناهز ٨٥عامًا (١٩٢٧-٢٠١٢) في الساعة الثانية عشرة والنصف من صباح يوم المصادف 22/10/2012،وعلمنا منأم عيسى المهتمة والقائمة على رعايتها، أنها ستقوم بدفن عفيفة اسكندر في المدافن الخاصة بعائلتها في مدينة بعقوبة في محافظة ديالي، لعدم وجود أهل لها في بغداد ولا مقابر معروفة، وكانت تسكن في شقة مؤجرة في منطقة الكرادة الشرقية، وبهذارحلت عفيفة من الدنيا وهي لا تملك شيئًا بعدما فقدت كل شيء في شيخوختها.
ومن الغريب أننا كتبنا خاطرة قبل موتها بأقل من ساعة قلنا فيها: quot;لكل زمان دولة ونساء، ها هي عفيفة اسكندر المطربة التي كانت محط الأنظار والأسماع تذوب مثل قطعة حلوى في فم طفل، راح الزمن يمضغها على مهل، تارة تصيبها الغيبوبة وتارة ترى ولا ترى وتسمع ولا تسمع وتنتبه الى من حولها ولا تنتبه، ربما تجهل أنها مغنية وأنها كانت اذا غنت اجتمع الناس حولها، الآن تفرَّق من حولها الذين كانوا يتمنون نظرة من عينيها ولمسة من يديها، ولكل زمن نساء، عفيفة لا أحد معها من تلك الجموع التي كانت تدور حولها، ربما لأنهم رحلوا قبلها، والحاليون لا يعرفونها أو لم تعد فيها فائدة له، وتظل ام عيسى سميرتها والمهتمة فيها، عفيفة ما زالت أنفاسها تتقطع على سرير في مستشفى مدينة الطب، صحتها غير مستقرة، بسبب هبوط الدورة الدموية ومازالت مستمرة على العلاج، مازالت أسمع صوت الراحل عباس بغدادي (صاحب كتاب بغداد في العشرينيات) وهو يصرخ في التلفون لها: عفاوي، ومازلت اسمع صوتها القوي يأتي من التلفون وهي تصرخ له: عبوسي، ألم اقل أن لكل زمان دولة ونساء.
ويقول الشاعر عبدالزهرة زكيrlm;: عاشت حياتها بأجمل ما تكون عليه الحياة، رفعة في الفن والذوق والسلوك، حياة مليئة بالأمل والحب والجمال، غمرها الناس بالحب الذي تستحق، خلّفت فناً تمتزج فيه خفة الكائن المشرق ومرح الروح المتخمة بالسعادة، لا بد من موت الإنسان، الخلود فقط لما يخلفه من أثر، سلاماً لروحها، ولنا أن نعيد اكتشاف أثرها.
وقال علي صبري، مؤلف المسلسل التلفزيوني عن سيرة حياتها quot;فاتنة بغدادquot;: رحلت فاتنة بغداد، ستبقى فاتنة ذاكرتنا، وداعًا سيدتي. بكيت وما نفع البكاء، سلام لروحك وداعاً ما أردتُ لكِ الوداعا
اما الشاعر حميدقاسم فقال: إن صح هذا الخبر تكون بغداد فقدت آخر عطر من رائحة التمدن والجمال، عفّوسيمر أيضًا في هذه الصحراء المعتمة.
فيما قال الممثل مهدي الحسيني: مباهج بغداد إرحلي لا مكان لك فيها.
وقال الصحافي سامر المشعلrlm;: أخيرًا رحلت الكبيرة عفيفة اسكندر من ساحة الغناء العراقي، لتطوي معها زمناً اتسم بالعفة وشرف المسؤولية بتقديم مشاعر الناس على شكل غناء يخرج من الروح، عفيفة صاحبة الروائع الغنائية quot;حركت الروح لمن فاركتهمquot; واغنية quot;جوز منهمquot; واغنية quot;اريد الله يبين حوبتي بيهمquot; واغنية quot;بعيونك عتابquot;، تشربت الغناء كقدر جمالي بصوتها وإحساسها ورفعتها وصفت بأنها مطربة الملوك، وترفعت عن الغناء للطاغية، الذي سلبها بيتها في الكرادة، وظلت منزوية بصمتها في بغداد، اشبه بغاندي الذي يقاوم الطغاة بالصوم، صامت عفيفة عن الغناء طيلة فترةحكم صدام، كانت تقول لي في كل دولة ازورها كانوا يعرضون عليالجنسية والبيوت والشقق، لكنني أرفض ذلك وأعود بأجنحة الشوق الى بغداد، فالعراق عندي اجمل من كل بقاع الارض.ماتت الاسطورة عفيفة وهي لا تملك ثمن الدواء، مخلفة دواوين من الذكريات والمواقف الانسانية والوطنية والاغاني بينما عدد من الاشنات والطحالب تنتفخ اوداجهم بالرواتب المليونية والمقاولات السياسية.
فيما قال الصحافي علي حسين: شغلت المطربة عفيفة اسكندر الأوساط الفنية والثقافية في بغداد، فهذه المرأة الجميلة دخلت الإذاعة العراقية عام 1937 ليصبح اسمها بين ليلة وضحاها على كل لسان، كان السحر عند الناس آنذاك هو الراديو، فقد استحوذ الأثير المغني على البيوت، جاءت هذه البنت من أربيل إلى بغداد، صبيّة تحلم بعالم من الشهرة والأضواء، كان عالم بغداد جميلاً ومختلطاً وملوناً، في البيت الذي سكنته عفيفة إسكندر في كرادة مريم كان المذياع يصدح بأغنيات سليمة باشا، ومنيرة الهوزوز، وزهور حسين والقبانجي، وكانت الفتاة الجميلة تمضي أكثر الوقت من أجل أن تسمع ما تحب.
الإذاعة نفسها quot;إذاعة بغدادquot; كانت على بعد خطوات من البيت الذي سكنته عفيفة، وستغامر ذات يوم بالذهاب صوب الإذاعة وتطلب من فؤاد جميل مدير الإذاعة آنذاك، أن تغني ولكن من سيلحن لها الأغنية؟ لم يكن غير صالح الكويتي الذي كانت أصوات المطربات تنتظر عند عتبة بيته، غنت عفيفة فأطربت وقبضت أعلى اجر تأخذه مطربة آنذاك وهو دينار ونصف الدينار دفع لها من أموال الجباية التي تأخذها الإذاعة نظير تقديم برامجها لمن عنده جهاز راديو .
وأضاف: نقلت عفيفة فرحها وعفويتها ومرحها إلى كل أغنياتها التي زينت بها حياة العراقيين، رسمت لنا وطناً دائماً ما ينتهي إلى البهجة والحياة.
وختم بالقول: ماتت عفيفة إسكندر وفي عيونها عتاب، فبغداد إستبدلت ثوب الحياة برداء مقزز لساسة كارهين لكل ما حولهم، لا يرون جمالاً ولا خيراً ولا سعادة إلا في سرقة أحلام الناس وسعادتهم، أغمضت عفيفة عينيها وهي تودع حبيبتها وقد استولى عليها سياسيون يفرضون كثيراً من الكآبة على الحياة، معززين ثقافة الظلام، يبددون الأمل ويحاصرون التفاؤل، يأمرون الناس بالكف عن ممارسة الفرح الذي لم يعد مهنة العراقيين بعد أن سادت مهن جديدة مثل العصابات والميليشيات وفرق الموت والعلاسة والحواسم وأمراء الحرب الطائفية والسياسيين المأجورين وكل هؤلاء يتبارون في كيفية ذبح السعادة والفرح ووأدهما في مقبرة الظلام.
وحسب المصادر، فإن عفيفة اسكندر اسمها الحقيقي، تريزا اسكندر، من عائلة متدينة وأبوها شماس من مواليد 1889وهي من مواليد 1927 حسب ورقة معموديتها وحين كان عمرها ثلاث سنوات أخذها والدها إسكندر الشماس بصحبة أختها (أغاته) الى الموصل بمناسبة عيد القيامة المجيد واختطفت عفيفة (تريزا- وهذا إسمها الحقيقي) وبيعت الى عائلة ديمتري اليونانية في الموصل وتبنتها مريم العراقية زوجة ديمتري اليوناني، وتزوجت من إسطيفان اسكندر ولقبت بلقب زوجها إسكندر وتشابه اسم ابيها اسكندر الحقيقي مع إسم زوجها. ولم ينجب منها فتبنت أنطوانيت، وكانت أنطوانيت شابة حين تبنتها من دار أيتام الراهبات في الموصل.
فيما تقول مصادر أخرىأن الفنانة عفيفة ولدت في مدينة الموصل عام 1927 في عائلة فنية من أب عراقي وأم يونانية إسمها ماريكا ديمتري، وبدأ مشوارها الفني الاول وهي في الثامنة من عمرها حين غنت في ملهى صغير في مدينة اربيل، انتقلت العائلة الى العاصمة بغداد وغنت عفيفة في اغلب نواديها، تزوجت وعمرها اثنتي عشرة سنة من الفنان اسكندر اسطيفان الذي كان معلمها الفني الثاني بعد والدتها، ومنه اخذت اسمها الثاني (اسكندر)، وبسرعة تحولت الى نجمة من نجوم الفن، واشتهرت بغناء المونولوج بلغات عديدة، عملت مع الفنانة منيرة الهوزوز، ثم سافرت الى القاهرة، شاركت في فرقة بديعة مصابني وفرقة تحية كاريوكا ومثلت افلاماً عديدة منها يوم سعيد والقاهرة بغداد وليلى في العراق، ثم عادت الى بغداد، كانت الى جوار فنها سيدة ذات صالون ادبي يلتقي فيه اعلام العراق من سياسيين وادباء وكتاب ومثقفين امثال نوري سعيد ومصطفى جواد وجعفرالخليلي وغيرهم.
وتعد عفيفة اسكندر المغنية الاولى في العهد الملكي، ومن ألمع فنانات العهد الجمهوري، فنانة شغلت الناس دهراً طويلاً بعذوبة صوتها وفطنتها ودرايتها، فضلاً عن تذوقها الموسيقى لكل شيء جميل واصيل، وهي اول مطربة بغدادية تغني القصيدة عند تأسيس التلفزيون العراقي عام 1956، وأول من غنى في الإذاعة عام تأسيسها 1936، وأول أغنية لمطربة حين ظهرت الالوان في التلفزيون العراقي عام 1976، غنت حدود 1500 أغنية ومن أكثر الملحنين الذين تعاملت معهم احمد الخليل، وخزعل مهدي، ضايقها عبد السلام عارف والنظام السابق وقد اغلقت عليها بابها منذ ذلك الحين، وكثرت الشائعات عن وفاتها بسبب هذه العزلة الى ما بعد عام 2003 حيث بدأت بالظهور،وراحت المنتديات تحتفي بها وتكرمهاوهي على كرسي متحرك، الى أن اجهدها المرض فلم تجد الا ان تخلد الى سرير الشفاء، ولكن الامراض كانت لا تفارقها بل تزداد قسوة عليها حتى فارقت الحياة.
التعليقات