"إيلاف" من القاهرة: ضمن سلسلة النوستالجيا بالأبيض والأسود التي تُسلِّط من خلالها الضوء على حياة وقصص مشاهير الفن والغناء، تُلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة حياة الفنان شكري سرحان الذي أثرى الحياة السينمائية بعشرات الأفلام المتميزة. حيث ستطرق لذكرياته منذ نعومة أظافره مروراً بأهم أفلامه في السينما المصرية التي نالت إشادات جماهيرية ونقدية، وذلك عبر مقطفات مأخوذة من تصريحاته في لقاءات نشرها الراحل وتناولت سيرته الذاتية خلال محطات تكريمه داخل مصر التي نال فيها عشرات الجوائز الفنية.

في معهد التمثيل
في نفس السنة التي فاز فيها شكري سرحان بجائزة التمثيل، أنشات وزارة التعليم المعهد العالي للفنون المسرحية ويقول شكري سرحان في أحد تصريحاته: "انتزعت موافقة والدي على الإلتحاق بالمعهد بصعوبة بالغة بعد أن وعدته هو والاستاذ زكي طليمات رحمه الله بالانتهاء من دراستي الثانوية أثناء دراسة المعهد ولم يكن بيني وبين شهادة اتمام الدراسة الثانوية غير عامٍ واحد".

إلتحق بمعهد الفنون المسرحية مع شقيقه صلاح سرحان وكانت الدفعة الأولى في المعهد تضم صفوة شباب الممثلين وخيرة المواهب التي ملأت الساحة الفنية بالعطاء والإبداع الفني.

ويتذكر موقفاً تعرّض له خلال دراسته بالمعهد قائلاً: "قام بزيارتي في منزلنا بعض الطلبة من فريق التمثيل بكلية الحقوق ومعهم المشرف على فريق التمثيل. وبعد السلام والتحية اخبروني ان زميلهم الطالب حمدي غيث أصيب فجأة بمرض يستحيل معه الجلوس وأنه يعاني من فرط الألم والحفلة التمثيلية موعدها بعد يومين ولا يمكن تأجيلها ولقد اختارني الزميل حمدي غيث لانقاذ الموقف الصعب وأكد لهم أنه يثق تماماً في قدرتي على إتمام هذه المهمة، واتفقت معهم على أن نلتقي في نادي نقاية المحامين في أول شارع عبد الخالق ثروت حيث تجري التمرينات وتسلمت نسختي من المسرحية وهي رواية عالمية باسم الوطن. وأجريت بروفة خاصة مع الملقن وكان يقوم بعمله بتمكن واجادة. ثم طلبت من المسؤولين في الكلية أن يكتبوا هذه الواقعة في البرنامج المطبوع الذي يذاع في الحفلة وان يلتمسوا لي العذر اذا توقفت لحظة بسبب النسيان أثناء الأداء على المسرح، لأنني أحاول أن أنقذ موقفاً صعباً للغاية. بل وأضافوا من عندهم موقفاً آخر عندما وقف سكرتير عام الكلية على خشبة المسرح قبل العرض وقدم شكر الكلية وعرفانها بالجميل لقبولي هذه المسئولية الكبيرة بالرغم من أنه لا توجد بيني وبينهم أي صلة. وبفضل من الله وتوفيقه، اندمجت تماما مع الملقن وأديت دور البطولة في المسرحية في تجانس تام مع باقي أبطال العرض ونجحت مع الآخرين في العبور بالعمل كله إلى برّ الأمان والنجاح بما يشبه المعجزة الآلهية وكان امتحاناً بالغ الصعوبة".


كانت دراسة شكري سرحان بالمعهد هي أعظم هدية يتلقاها أي طالب عاشق للفن ناشئ في محاربه. والهدية كانت مجموعة عظيمة من أساتذة الأدب والفن والثقافة الفنية والنقد الفني والفلسفة وعلم النفس والتذوق الفني. ويضرب "شكري" الأمثال بهؤلاء الأساتذة، فيذكر منهم زكي طليمات، د.محمد مندور، د.زكي مبارك، د. إبراهيم سلامة، د. مظهر سعيد، والفنان جورج أبيض، والمخرج فتوح نشاطي، والكثير من العمالقة الذين عاش معهم رحلته الطويلة في عالم الثقافة الواسع.
ولقد عرف حينذاك قيمة الفن وتأكدت عنده أهميته وحجمه ووزنه، إذ كان الممثلون هم كبار رجال الدين في أرض الفراعنة، وعرف عظمة الفن الذي يعكف على دراسته حجم المسئولية الملقاة على عاتق الفنان تجاه المجتمع كله على مرّ العصور، وتابع تطور العمل المسرحي منذ كان يعرض في الشوارع والميادين والسهول والجبال حتى أصبحت تقام له أعظم المسارح وأفخم وأروع دور الأوبرا في العالم، وكيف تطورت الحركة المسرحية نفسها من إخراج وفن الكتابة للمسرح والاضاءة والديكورات. كما تعرّف على أهم وأعظم الشخصيات المسرحية على الخشبة وخلفها من كتاب إلى مخرجين وممثلين.

وفي السنة الثانية للدراسة في المعهد كوّن زكي طليمات بعض المجموعات الصغيرة من الطلبة تشترك معا في تمثيل بعض المسرحيات العالمية. ويحكي "سرحان" عن هذه الخطوة فيقول: "كانت إحدى هذه المجموعات تتكون من صلاح منصور وحمدي غيث وأنا معهم وكنا نقدم مشهداً كبيراً من مسرحية عالمية، بعد أن قام أستاذتنا بتوجيهنا إلى أداء هذا المشهد مرات عديدة. واستطاع هذا الثلاثي الناجح أن يتفوق على نفسه وبعد عدة أسابيع زارت الفرقة الكوميدي فرانسيز المعهد بدعوة من أستاذنا زكي طليمات فقدمنا لهم نحن الثلاثة، المشهد الذي تدربنا عليه طويلاً، وكانوا يعرفونه ويحفظونه جيداً.
فهو المشهد الرئيسي للرواية التي كانوا يعرضونها على دار الاوبرا المصرية في ذلك الوقت، وبعد أن انتهينا من العرض فوجئنا باعضاء الفرقة الفرنسية جميعا يثنون ويصفقون لنا تصفيقاً حاراً، وطلبوا من الفنان زكي طليمات أن يسمح لنا بالذهاب إلى دار الأوبرا كل ليلة لنشاهد هذا العمل معهم في الكواليس وكانوا ينادوننا بأسماء الأدوار التي قمنا بتمثيلها أمامهم".

ويواصل السرد: "أعتبر هذه المرحلة أحلى وأغنى مراحل حياتي الفنية فقبل التخرج من المعهد قام استاذنا بإخراج المسرحية الفرنسية العالمية "البخيل" ومعها في نفس العرض المسرحية العالمية "الجلف". وكانت فرصة فريدة ليقدمنا جميعا طلبة المعهد وطالباته من خلال هذا العرض الكبير على دار الأوبرا حيث نال نجاحاً فاق كل وصف، وكان الفضل الأكبر لهذا النجاح الساحق لله سبحانه وتعالى ولأستاذنا المخرج المبدع زكي طليمات رحمه الله وكانت وصاياه لنا دائما بالإلتزام التام وعشق المسرح وتفضيله على أي شئ اخر فكان نعم الاستاذ ونعم المعلم".


إخفاق مؤلم في السينما
كان العرض المسرحي الذي قدمه شكري سرحان ورفاقه سبباً في قيام صاحب شركة إنتاج سينمائي بطلب التعاقد معه، وهو المنتج جورج منصور، الذي رغب أيضا بالإتفاق معهم لإبرام عقد احتكار لمدة 3 سنوات للقيام بأعمال سينمائية في شركته، ومنهم فاتن حمامة وسميحة أيوب، براتبٍ شهري، لكن والد الفنانة فاتن حمامة رفض توقيع العقد.
ونص التعاقد على أن يبدأ الراتب الشهري بـ20 جنيه في السنة الأولى، ثم 30 جنيهاً في السنة الثانية ثم 40 جنيهاً في الثالثة، وكانت فرحته وفرحة سميحة أيوب بهذا الإتفاق تفوق الوصف لأنه سوف يفتح الباب لهما ولأول مرة للدخول إلى الساحة السينمائية كوجوهٍ جديدة تحلم بالشهرة. لكن، الشركة فشلت وأغُلِقت وأرسل المنتج لهما خطابين مؤثرين جداً يحمل كل منهما بلاغاً بإلغاء عقد الاحتكار واختفى من الساحة الفنية.

إحباط وشهرة
كان زكي طليمات قد ألحق عدداً من زملائه بعد التخرج من المعهد وشكري سرحان منهم بالفرقة القومية التي تحمل اسم المسرح القومي حالياً وكانوا يقومون ببعض الأدوار الصغيرة، وفي يومٍ مشرق وجميل جاءته أول فرصة للقيام بدور الفتى الأول بفيلم اسمه "هارب من السجن" وكان اختياره لهذا الدور قد تم بناء على توصية خاصة من المنتج الذي فضل اعطاء الفرصة لوجه جديد من خريجي المعهد، وبدأ التصوير مع شئ من التوتر في جو العمل ولم يعرف سبباً لكل ما كان يصل اليه من بعض الهمس الذي كان يدور بين المخرج واحد الممثلين المعروفين بالثرثرة والرغي الكثير وبدون توقف وبعد يومين من التصوير فوجئ بالمساعد الاول للمخرج يحضر إلى غرفته في الاستوديو ويخبربه بانه تم استبداله بممثل معروف في ذلك الوقت وذلك لظروف انتاجية.


إستسلم شكري سرحان للأمر الواقع ولكنه شعر بأن قدميه على وشك الإنهيار، وغادر الاستوديو وهو في حالةٍ يُرثي لها، ولازم منزله وأقعده الاكتئاب واليأس المميت حتى خرج من من هذه الأزمة بعد قراءة عدة كتب في أيام قليلة.
وبينما كان في دار الأوبرا، أثناء الإستراحة، أقبل عليه رجل أنيق وسيم وقدّم له نفسه. قائلاً: أنا صلاح ذهني الكاتب في مجلة آخر ساعة. فرحب به "سرحان"، ثم سأله" ذهني": لماذا لا تعمل في السينما؟ إنك تصلح لهذا تماماً بفضل صورتك، أناقتك وصوتك. فابتسم له وقال: "أنا خريج المعهد العالي للتمثيل وأقوم بأدوارٍ صغيرة مع زملائي في الفرقة القومية والحمدلله".
فطلب منه أن يذهب إليه في مكتبه في مجلة آخر ساعة، ومعه صورة معبّرة لكي يقوم بنشرها، فذهب إليه ونفذ ما طلبه منه وفي الأسبوع التالي رأى صورته في المجلة في صفحة الأستاذ ذهني، ووضعها تحت عنوان يقول "فتى أول ينقصه مخرج" وبعد عدة أيام اتصل به من دار الهلال الأستاذ حسن مظهر وطلب مقابلته في مكتبه، وعرض عليه تصويره على صفحتين في مجلة أهل الفن على أن تحمل كل صورة تعبيراً مختلفاً عن الآخرى، وتم تصوير هذه المجموعة التي لم تقل عن 20 صورة قدّم فيها تعبيرات مختلفة وكان لصورة المرحوم صلاح ذهني وما تلاها من المجموعة الأخرى من الصور، فكان أول الغيث بالنسبة له مع الكاميرا.