"إيلاف" من القاهرة: ضمن سلسلة النوستالجيا بالأبيض والأسود التي تُسلِّط من خلالها الضوء على سيرة حياة وقصص مشاهير الفن والغناء، تُلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة حياة الفنان شكري سرحان الذي أثرى الحياة السينمائية بعشرات الأفلام المتميزة. حيث ستطرق لذكرياته منذ نعومة أظافره مروراً بأهم أفلامه في السينما المصرية التي نالت إشادات جماهيرية ونقدية، وذلك عبر مقطفات مأخوذة من تصريحاته في لقاءات نشرها الراحل وتناولت سيرته الذاتية خلال محطات تكريمه داخل مصر التي نال فيها عشرات الجوائز الفنية.
على مسرح الأزبكية
وتمر الأيام ويكبر الأولاد الصغار وتتحرك أقدام شكري سرحان إلى المسرح ليشاهد شقيقه صلاح سرحان وهو يقف على الخشبة ويؤدي واحداً من أدواره الأولى، وكان يشترك في ذلك الوقت مع فرقة التمثيل في مدرسته بتمثيل مسرحية باسم "عزة بنت الخليفة" وكانت الفرقة المدرسية تعرض على مسرح حقيقي وكبير على مسرح الأزبكية.
ولم ينسَ كيف دخل إلى المسرح الكبير وكيف تنقلت عيناه بين الكراسي القطيفة المتراصة في نظامٍ بديع- على حد وصفه. ويستذكر المشهد واصفاً كيف دارت الستارة العملاقة الحمراء التي قال عنها "كان شكلها في غاية في الجمال وبعد قليل بدأت تنفتح بهدوء وثبات على أنغام الموسيقى، وبدأ العرض المسرحي وأنا مشدود تماماً مما أرى وأسمع، حتى ظهر شقيقي صلاح على المسرح وقد ارتدى ملابسه التاريخية الجميلة ووضع على رأسه عمامة ريشة نعام بيضاء ناصعة، وبدأ يتكلم بلهجةٍ عربية جميلة لا أذكر إن كانت شعراً أم نثراً. فكانت أحلى من الطرب في سمعي ووجداني".
لقد كان الطلبة في ذلك الوقت وفي كل المدارس العربية يتنافسون في فن الالقاء وفن الخطابة وكانوا يتبارون في تقليد زعماء الحركة الوطنية. ولقد كانت هذه وسيلة نفوذهم إلى وجدان الجماهير عبر الكلمات الحماسية. وكانت المناسبات القومية كثيرة فكان أساتذنهم في فن الإلقاء والخطابة هم هؤلاء الزعماء الكبار.
مسرح المدرسة
وعاد سرحان إلى منزله في تلك الليلة ولكنه لم ينم بهدوء كالمعتاد. كانت النشوة الطاغية تسيطر على أحاسيسه ووجدانه وكان أول قرار جرئ يتخذه بينه وبين نفسه أن يبحث عن مسرحٍ يستمتع من خلاله بالظهور أمام المتفرجين. فقد استهواه تماماً طريق شقيقه صلاح وملك عليه كل وجدانه. وفعلاً، وبعد أول يوم من هذا الحدث الفني الهائل الذي زلزل كيانه كله، بدأ "سرحان" في محاولاته لتحقيق حلمه الكبير ومن خلال المسرح المدرسي الذي كان له شأن كبير في الحركة المسرحية وفي نشاط وزارة المعارف، فكانت الوزارة تشجع هذا الفن الراقي وتشرف على إقامة مسابقة في نهاية العام الدراسي كل سنة بين تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات وكان الكل يتنافسون للفوز بكاس الوزراء في التمثيل.
وانتقلت أسرة "سرحان" إلى منزلٍ جديد في شارع المبتديان بجوار واحدة من أعرق دور الصرف في مصر، دار الهلال وكان التمثيل قد ملك عليه كل وجدانه وسمع أن المدرسة الخديوية هي المدرسة التي فازت بكأس الوزارة وأنها تضم أحسن فريق للتمثيل في مدارس مصر وكانت المدرسة التي تمثل المركز الثاني هي مدرسة خاصة اسمها مدرسة الدواوين.
وتعود ذاكرته إلى تلك الأيام وهو يقول "لما كان والدي رحمه الله صديقاً لمدير هذه المدرسة الخاصة بحكم عمله في التعليم لأعوامٍ مضت، فقد تبلورت الفكرة برأسي. وطلبت من والدي أن يُلحقني بهذه المدرسة الثانوية باعتبارها قريبة من منزلنا. فرحب والدي بالفكرة.
والتحقت بالمدرسة وكانت فرصة لا تعوض وفرحة كبيرة وانا أجد نفسي بين أعضاء فريق التمثيل بالمدرسة وكان لقائي الأول مع أستاذي القدير المخرج أحمد البدوي رحمة الله عليه وكان من أبرز مخرجي المسرح. وكان فريق التمثيل في المدرسة يضم من الفنانين الذي اشتهروا بعد ذلك الأساتذة محمد عزمي ولطفي عبد الحميد الذي اشتهر بأداء الشخصية الكوميدية فتلة ببراعة شديدة".
ويتذكر أول درس تلقاه في التمثيل من أول أستاذ له في الفن عندما أدى أول اختبار له على خشبة المسرح. حيث قال له أن الممثل كالصندوق المغلق لا تتعرف عليه، إلا حينما ينفتح الصندق وينطلق صوته.
ثم كانت أول أدوار شكري سرحان البطولية في مسرحية "صلاح الدين مملكة أورشليم" التي عُرِضَت على مسرح الأزبكية وحققت نجاحاً منقطع النظير، ولكن هذا النجاح لم يشفع عند وزارة التعليم فحصلت مدرسة شكري سرحان على المركز الثاني لأنها مدرسة خاصة واحتفظت المدرسة الأميرية بالكأس لعامٍ آخر.
كأس الوزارة
إهتزت طموحات شكري سرحان الفنية في ذلك الوقت وتطلع إلى أن يكون في مدرسة أميرية واستطاع أن يُقنع والده بأن ينقله إلى المدرسة الإبراهيمية بحجة أنها كانت تُعتبر أرقى مدرسة في مصر ونتائجها الدراسية أفضل النتائج ومديرها من أعظم رجال التعليم وأسرف شكري سرحان في استخدام صيغة أفعال التفضيل التي تعلمها في دروس اللغة العربية، وأن المدرسة قربية من بيتهم في جاردن سيتي، ثم أنها تهتم بالنشاط الرياضي وأن العقل السليم في الجسم السليم، واستمر حتى نجح بإقناع والده.
وكان له ما أراد. علماً أن مدير المدرسة في ذلك الوقت كان يحمل لقب بك رسمي وهو "حامد بك نبيه" ينطقونه بكل الإجلال والتقدير. وكان يهتم اهتماماً كبيراً بكل شؤون مدرسته ويشجع النشاط الفني الرياضي وعندما علم فريق التمثيل أن شكري سرحان انضم إلى مدرستهم وكانوا قد شاهدوه على المسرح من خلال حفلة الكأس التي لم تحصل عليها مدرسته الخاصة، التفوا حوله ورحبوا به وأقاموا له حفلة شاي "على الضيق" دعوا إليها مدير المدرسة حامد بك نبيه وبعض المدرسين. وبعد تناول الحلوى وشرب الشاي، طلبوا منه أن يلقي أمامهم جزءاً من مشهد تمثيلي واندفع شكري أمامهم يقول ويعيد ويجيد والتهبت الايدي بالتصفيق ودارت الألسنة بكلمات المديح والإستحسان.
ووجد نفسه في موقفٍ متميز وشعر أنه يستطيع أن يطلب فيُجاب. وفعلاً طلب منهم أن يتفقوا أولا مع أستاذه المخرج أحمد البدري على أن يتولى شؤون الفرقة المدرسية وثانياً أن يعملوا على إلحاق زميله محمود عزمي بالمدرسة الإبراهيمية للإستفادة من موهبته والملابس والديكور والنصوص. وتم كل شيء بسرعة واستمرت المدرسة الإبراهيمية ولمدة 3 سنوات تحصل على كأس الوزارة في التمثيل، لكونها مدرسة أميرية وفيها أقوى فريق تمثيل.
إنسحاب فعودة
واكتشف "سرحان" وهو يقترب من نهاية اتمام المرحلة الثانوية أن نشاطه الفني يستغرق الكثير من وقته وأن جانباً آخر منه يذوب في النشاط الرياضي. فقد كان بطلاً في كرة السلة وفي الملاكمة والمصارعة التي بدأها من سنوات في ميدان السادات. وفجأة قرر أن يضع حدا لكل نشاط غير الدارسة حتى يركز في دراسته لينهي المرحلة الثانوية. فقد كانت شهادة الثانوية العامة "بعبعاً" مخيفاً في ذلك الوقت. فطلب من والده أن ينقله إلى مدرسة بعيدة لا يعرفه فيها أحد، ولا يشير إليه فيها أحد على أنه الممثل شكري سرحان. فكان له ما أراد ونقل إلى مدرسة فؤاد الأول الثانوية بالعباسية.
ودارت الأيام وكان سعيداً بمدرسته الجديدة وكان هادئاً لأنه لا يعرف أحد في هذه المدرسة. ولكن الصورة تغيّرت بسرعة عندما بدأ الطلبة يحملقون فيه. ينظرون إلى وجهه الطويل ثم يسألون عن اسمه وأصله وفصله. وكان يحاول الإفلات منهم، لكنه في النهاية قال لهم نعم أنا شكري سرحان الذي تعرفونه رئيس فريق التمثيل بالمدرسة الإبراهيمية سابقاً والتلميذ بمدرسة فؤاد الأول الثانوية حالياً. وقدموا له أنفسهم نحن فريق التمثيل بالمدرسة وطلبوا منه أن يؤكد انتمائه إلى مدرسته الجديدة وأن يشترك معهم في الفريق.
ويقول " سرحان" في هذا السياق: "كانوا قد شاهدوني في الحفلات التمثيلية مع فريق الإبراهيمية ولكني رفضت بشدة وصممت على الرفض فوافقوا على أن أقوم بزيارتهم ولو مرة أثناء إجراء التمرينات مع الأستاذ المخرج محمد يوسف، وحضرت التمرينات. وحاولت أن أكون متفرجاً فقط. وعندما هممت بالأنصراف أحاطوا بي وقالوا... ألست تنتمي لمدرسة فؤاد الأول التي تشارك أيضا في كاس الوزراة؟ أليس لانتمائك عليك حقاً؟.. وصممت ورفضت. وألحوا فخجلت من استمرار الرفض. وبدأت معهم التمرينات وكانت المسرحية من جزئين. جزءاً كبيراً من مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير الذي يشمل تبادل الخطابة في الشعب بين مارك أنطونيو وبروتس بعد مقتل يوليوس قيصر، والثاني مسرحية عالمية شهيرة باسم القضية المشهورة. وكنت بفضل الله أقوم ببطولتها.
وجاء يوم الحفل الكبير على مسرح الأزبكية وكتب الله لي توفيقاً كبيراً مما جعل وزير التعليم في ذلك الوقت وكان اسمه العشماوي باشا يمنحني جائزة الوزارة وكانت الجائزة مجانية التعليم في جميع مراحله.
وكان التعليم في ذلك الوقت بالمصروفات أما المفاجأة الكبرى فتمثلت بقرار الوزارة الذي اتخذته بمنح كأس التفوق في التمثيل مناصفةً بين مدرسة فؤاد الأول ومدرستي السابقة الإبراهيمية".
التعليقات