فتحت عينيّ على العالم في أحراش عارية وفقيرة، تكاد تنعدم فيها أبسط متطلبات الحياة. لذا يمكنني أن أقول إنّ الذهب والفضّة كانا غائبين وحاضرين في الوقت نفسه. غائبان لأنهما لم يكونا متوافرين. فإن توفّرا فبقدر ضئيل لا يفي بالحاجة، ولا يثير اهتمام الناس وفضولهم. وحاضران لأنهما كانا دائما وأبدا على ألسنة من كنت اعيش بينهم، وفي خيالهم كانا يلمعان بسحر أخّاذ.
 
وكان الذهب هو الغالب في احاديث الناس، وفي مسامراتهم، وجلساتهم. وبسبب عدم وجوده، وصعوبة الحصول عليه في تلك الأحراش التي يجثم عليها شبح الفقر على مدار العام، كان الذهب يتحوّل الى استعارة بهيّة، مبهجة للقلب والروح!. فالارض الخصبة ذهب خالص. ومطر مارس التي تعقب الجفاف ذهب خالص هي أيضا. والكلام الجميل الذي يفيض من "لسان يغزل الحرير" يمكن أن يكون من فضّة.أما السكوت فمن ذهب.
 
الذي يعوّض ضرسه الطبيعي المخلوع بضرس من ذهب يمكنه ان يضحك ملء شدقيه لكي يرى الناس جميعا ضرسه الذهبيّ الذي هو رمز الرخاء، والنعمة التي يهبها الله لمن يشاء من عباده.
 
الذهب نادر وثمين. والحصول عليه صعب إن لم يكن مستحيلا. فهو مدفون في اعماق الأرض، وفي أماكن مختلفة، ومتعدّدة. وقد تكون هذه الأماكن خربة متروكة تعود الى عهد الرومان أو الوندال، أو بئرا مهملة يعشش فيها العنكبوت، أو مغارة في جبل تكثر فيه الأفاعي والعفاريت، أو جذع شجرة خروب عجوز. وقد يكون في عين طفل. ولا بدّ من قتل هذا الطفل للعثور على الكنز بحسب ما تروّجه الخرافات والأساطير التي كان يستهويني سماعها في سهرات الليل.
 
تروي تلك الخرافات والأساطير مغامرات من يريدون الحصول على كميات وفيرة من الذهب قد تكفيهم، وتكفي أبناءهم لعقود طويلة. وغالبا ما تكون هذه المغامرات محفوفة بالمخاطر، والمصاعب المهلكة. والذين يخوضونها يقطعون جبالا وعرة، وصحار قاحلة، ويواجهون أهوالا ومصاعب يشيب لها شعر فتى في ربيع العمر، ويحاربون اغوالا مرعبة يتغذون من الدماء البشريّة.
 
والذهب مقترن بالجمال أيضا. فالمرأة الجميلة توزن بالذهب الخالص. وهي غالية، وعزيزة المنال مثل الجوهرة النادرة. وتكون المرأة اجمل النساء إذا ما كان شعرها بلون الذهب.
 
والذين يمتلكون الذهب عادة ما يكونون من اهل الجاه والنفوذ. وهم أمراء، وملوك، ووزراء، ورؤساء قبائل، وقضاة كبار، وجنرالات، ومحاربون أشداء يعودون من المعارك التي يخوضونها ومعهم صبايا جميلات، وصناديق من ذهب. وأنا لا أنسى أبدا تلك القصّة البديعة التي قرأتها في أحد كتب التاريخ وأنا على عتبات المراهقة.
 
تقول تلك القصّة إن زيادة الله بن الأغلب لمّا انقرضت دولته، وتأهّب للسفر، اشترى ما يلزم لذلك، وأخذ في رفع الأموال، ونفيس الخلع، واصطفاء المجوهرات، واختيار السلاح، وحمل ما يعزّ عليه من أمّهات اولاده، وجواريه. ثم انتخب من عبيده الصقالبه ألف خادم، وجعل في وسط كلّ واحد منهم ألف دينار خوفا من قطاع الطرق. فلمّا استكمل عدته، خرج من رقادة ليلا بين أهله وحشمه، فوقفت اليه حينئذ جاريته سلاف التي جلبها من بغداد، وكانت من الاديبات المتقنات للغناء، ولها صوت بديع، ثم اخذت العود على صدرها، واندفعت تغنيه لتحمله على الحاقها بركبه:
لم أنس يوم الرحيل موقفها
وجفنها في دموعها غرق
وقولها والركاب سائرة:
تتركني سيّدي وتنطلق
 
وما أن انشدت سلاف الأبيات المذكورة حتى أجهش زيادة الله بالبكاء، وظلّت دموعه تنهمر وقتا طويلا، ثمّ أمر بحطّ حمل ذهب عن بغل وحملها!
هذه القصة، والعديد من القصص التي تحفل بها كتب التراث العربي، تؤكد في غالبيتها على العلاقة الوثيقة التي تربط بين السلطة وبين الذهب والجمال. لذلك يمكن القول إنه لا سلطة من دون ذهب، وإنه لا يكون للسلطة سحر وأبّهة الاّ بالحضور الدائم لجمال المرأة. وهذا أمر بخصّ جميع الشعوب والأمم.