&غالبا ما استيقظ خلال السنوات الماضية لاجد نفسي امام ركام من الاخبار السيئة والمفزعة التي تربك نشاطي، وتعطل حيويتي، وتغرقني في مرارة قد اظل اعاني من تبعاتها يوما او اكثر من يوم. ومثلا تقول هذه الاخبار ان سلفيين متطرفين قاموا بذبح راع في جبل بالقرب من بلدة "الحفي" (وسط البلاد)، ثم ارسلوا راسه الى عائلته ليبيت ليلة بكاملها في الثلاجة قبل ان تنتبه الى وجوده. أو ان ثلاثة شبان قاموا باختطاف طفل صغير في العاشرة من عمره ليغتصبوه ،ثم يرموا به لظلام الليل وبرده فيظل حتى الصباح وهو يبكي تائها في البرية.وقد تعلن هذه الاخبار ان جمعا من الشبان قاموا ببناء حائط على السكة الحديدية الرابطة بين قفصة وقابس بالجنوب لتعطيل حركة القطارات التي تنقل الفوسفات.،أو هي تشير الى ان فنادق سياسية اضطرت الى غلق ابوابها ليجد عمالها وموظفوها انفسهم عاطلين عن العمل ،وعاجزين بالتالي عن ضمان عيشهم وعيش عائلاتهم.وقد تطلق تلك الاخبار صيحات فزع بعد ان اكدت مصادر امنية ان الخلايا الارهابية النائمة قد ترتكب جريمة فظيعة في المحلات التجارية الكبيرة او في مطار تونس-قرطاج،او في "باب البحر"،القلب النابض للعاصمة ،فيكون ضحاياها بالمئات...ومن الطبيعي في مثل هذه الاحوال ان ابحث عن ما يمكن ان يمنحني جذوة من الامل حتى لا تفسد حياتي ،وتتجمد حركتي،ويتعتم يومي فلا ارى فيه نورا،ولا اتذوق فيه ولو قدرا ضئيلا من السعادة!عندئذ اختار ان اتناول فطور الصباح مستمعا الى برنامج"الفوندو" على اذاعة شمسFM والذي يبث من الساعة التاسعة الى الساعة العاشرة صباحا،وتقدمه كريمة كتاري صاحبة الصوت البديع،والضحكة المشرقة حتى في الايام الحالكة.وهي &تبدأ برنامجها بتحية المستمعين على الطريقة التونسية الاصيلة.فصباحهم "دقلة وحليب"(الدقلة هي التمر الجيد)،أو صباحهم فائح بعطر الفل والياسمين،مبشرة اياهم بأن برنامجها سيظل دائما وابدا ملتزما بما تعهدت به ،والمتمثل في استعادة ذكريات الزمن الجميل ،واحياء صورة تونس القديمة،تونس التسامح،والمحبة،والتضامن،والاقبال على ملذات الحياة .تونس بعاداتها وتقاليدها الجميلة التي اندثرت بسبب "الحداثة المعطوبة" بحسب تعبير صديقي الشاعر المغربي محمد بنيس.تونس التي تغنى بها ابو القاسم الشابي،ومجدها فنانوها الكبار الذين اجبرتهم لقمة العيش على العيش بعيدا عنها غير انهم لم ينسوها ابدا.وهذا هو حال المبدع الرائع محمد العريبي الذي انتحر في باريس في الليلة الفاصلة بين عام 1946 و1947.وايضا حال الفنان محمد الجموسي صاحب اغنية "ريحة البلاد" التي لا تزال تبكي العديد من المهاجرين التونسيين .وقد تستحضر كريمة سيرة الفنان الأنيق علي الرياحي الذي سقط على الركح ميتا في سهرة ليلة السابع والعشرين من مارس ( اذار) 1970،رواية تفاصيل رحلته الى القاهرة في الخمسينات من القرن الماضي ليلتقي بفريد الاطرش،ومحمد عبد الوهاب وفنانين اخرين.كما تروي مأساة &الفنانة اليهودية فائقة الجمال حبيبة مسيكة التي الهبت قلوب عشاقها في عقد العشرينات من القرن الماضي،وهام بها الزعيم الحبيب بورقيبة في فترة شبابه الاولى عندما كان يقبل على التمثيل في الفرق المسرحية.وبسبب الغيرة ،أحرقها عشيقها الذي كان يكبرها في السن بعد ان انتبه الى انها لم تكن وفيه له ولا لجميع عشاقها الاخرين.
وبهدوء تسحب كريمة المستمعين الى الماضي البعيد لتحدثهم عن الفنانة صليحة ،الملقبة ب"أم كلثوم تونس" التي غادرت وهي طفلة قريتها ببلدة "نبّر" في منطقة الشمال الغربي ،القريبة من الحدود مع الجزائر،وجاءت الى العاصمة لتعمل خادمة في المنازل.وأثناء العمل ،كان يحلو لها ان تطلق صوتها بالغناء فانتبه لها احد الوجهاء المغرمين بالموسيقى لتصبح نجمة الغناء التونسي في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي.وبسبب إقبالها الجنوني على ملذّات الحياة التي لم تكن تشبع منها أبدا،كانت صليحة تلزم الفراش أياما وأسابيع.وفي أواخر عام 1958،وكان قد مرّ عامان على حصول تونس على استقلالها حرصت صليحة رغم المرض العضال الذي أصيبت به على المشاركة في حفل موسيقي مشترك بين تونس والمغرب.وفي ذلك الحفل البهيج غنّت"مريض فاني طال بيّ دايا"،وهي واحدة من أجمل أغانيها .بعد مرور أيّام قليلة على ذلك،وتحديدا في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر، من العام ذاته ،رحلت صليحة عن الدنيا. ويوم دفنها،سار في جنازتها حوالي عشرين ألفا من المعجبين تتقدمهم شخصيّات كبيرة ،سياسية وثقافية.
وفي برنامجها،لا تنسى كريمة أن تتحدث عن الفنانين والشعراء الذن عاشوا مهمشين ومهملين غير أنهم تركوا تراثا بديعا تبرز فيه المواهب التونسية القديمة في اجمل تجلياتها.ولعل هدفها من كل هذا هو لفت انظار التونسيين الى ان ماضيهم يمكن ان يساعدهم على صنع حاضرهم ومستقبلهم، ويعيد لهم بهجةالحياة و اشراقتها .تلك الاشراقة التي يسعى اصحاب الايديولوجيات الرمادية الكئيبة الى اطفائها واخماد نارها لكي تصبح تونس بلا روح وبلا قلب!
&