شارك 173 قاضيًا ومختصًا في شؤون الإرهاب من 34 دولة غربية وعربية في لقاء دولي عقد في باريس، لتنسيق الجهود القضائية في الحرب على الإرهاب، والبحث في سبل منع نشر التطرف والإرهاب داخل السجون في أوروبا.

باريس: عُقد في باريس لقاءٌ دوليٌ لمحاربة الإرهاب، شارك فيه قضاة ومختصون من 34 دولة، في مسعى لتنسيق الجهود القضائية في خريطة محاربة الإرهاب في العالم، وبحث في الوسائل الهادفة لمنع نشر الفكر المتطرف والإرهاب داخل السجون، في مسعى للإحاطة أكثر بالأسباب وراء تحرك الخلايا الإرهابية النائمة، خصوصًا في الدول الأوروبية، وتجفيف منابع التطرف في خطوة غدت ضرورية بعد اعتداءات باريس الإرهابية، التي أدت إلى قناعة فرنسية بأن التهديد الإرهابي بات واقعًا.&

بلا حدود

قالت وزيرة العدل الفرنسية كريستيان طوبيرا، في افتتاحها أعمال اللقاء في 27 نيسان (أبريل) الماضي: "يجب اليوم تعزيز التضامن بين دول العالم لابتكار طرق أكثر فاعلية في مكافحة الإرهاب العالمي، منها البحث عن وسائل لكشف من يقعون فريسة للإرهاب وسط ظاهرة جديدة ألا وهي اندفاع أشخاص يُمكن أن يكونوا اوروبيين أو مقيمين في أوروبا، لتنفيذ اعتداءات ضد مصالح غربية كأفراد، مستلهمين ذلك من أفكار التنظيمات المتطرفة على شبكة الإنترنت، ومن هنا يأتي تحذير وزيرة العدل الفرنسية من أن غالبية من يقعون في مخالب حركات التطرف أو الإسلام الراديكالي، يتم التغرير بهم عبر الانترنت".&

يأتي ذلك في وقت نرى انقسامًا غربيًا في تحديد مظاهر الإرهاب، وهنا تكمن المعضلة الأساسية في إيجاد استراتيجية مشتركة لمحاربة الإرهاب. ويقول ماثيو غيدير، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تولوز، لـ "إيلاف" إن المشكلة وراء عدم الخروج باستراتيجية مشتركة لمحاربة الإرهاب حتى الآن هي الإنقسام في تحديد آليات وفعاليات ومظاهر الإرهاب، "فهناك دول ترى أن على الحكومات ألّا تتدخل في شؤون العقائد والدين، وأن تقتصر على محاربة العنف، وهناك دول أخرى ترى أنه في العنف والتطرف يتم استغلال بعض الأفكار والدعايات التي تحث على الجهاد، خصوصًا إذا كان هناك اختلاف في النظرة العقائدية والعملية للإرهاب، وهذا ما يجعل ضروريا تنسيق الآراء والسياسات في هذا الميدان لمكافحة الحركات الأصولية".

تجسس ورصد

شهد اللقاء الدولي لمحاربة الإرهاب مشاركة 173 قاضيًا ومختصًا في شؤون الإرهاب من 34 دولة غربية وعربية. ويأتي في إطار سياسة تقوم على دور فعال ومركزي لجهاز الإستخبارات الداخلي والخارجي في مكافحة الإرهاب، برصد حركات التطرف التي تؤدي بطريقة أو بأخرى إلى الكشف المبكر عن الإعتداءات التي يتم التحضير لها، والعمل على تفكيكها قبل وقوعها.&

من هنا، كان الدور المحوري للجسم القضائي في محاربة الإرهاب، إذ لا يُمكنُ أن يكون هناك سياسة فعالة لمحاربة الإرهاب، من دون أن يكون هناك مؤسسة قضائية قوية.

وشددت وزيرة العدل الفرنسية على أهمية مشروع القانون الفرنسي، "الذي يُتيح علنًا لجهاز المخابرات الفرنسية مراقبةً أكثر فاعلية لشرائح المجتمع، بينها التجسس على المكالمات الهاتفية، وإجبار موطني محركي البحث عبر الإنترنت على تزويد المخابرات ببيانات من يُشتبه بإنتمائهم للتنظيمات المتطرفة، للكشف المبكر عن الإعتداءات التي يتم التحضيرُ لتنفيذها".

الإقصاء أشاع التطرف

قالت آن غيديالي، الخبيرة في الشؤون الجيو-سياسية، لـ "إيلاف" إنه لغاية اليوم لم تصل السلطات الأوروبية أو الفرنسية إلى مرحلة القضاء نهائيًا على جذور الإرهاب أو التطرف، "لذلك على السلطات الفرنسية أن تفرض رقابة قوية على مواقع التواصل الإجتماعي عبر شبكة الإنترنت، والعمل على الإيقاع بالأفراد والجماعات الراديكالية التي تعمل على تجنيد الشباب الأوروبي، وهذا عمل في غاية التعقيد، ولن يفي وحده بالغرض، إذ لا يُمكنُنا تغييب اليوم أن هناك قابلية لدى بعض شرائح المجتمع الأوروبي بالإنضمام إلى التنظيمات المتطرفة، فالمشكلة إجتماعية، وإلا لماذا نرى أوروبيين يسعون وراء مجتمعات مختلفة إن لم يكن هناك مشكلة في المجتمع الذي ينتمون إليه".

وكشفت طوبيرا أن ما بين 12 و15 ألف غربي يقاتلون اليوم في صفوف التنظيمات المتطرفة في سوريا، وبينهم 3 إلى 5 آلاف أوروبي.

تابعت غيديالي: "آفة توجه الأوروبيين، خصوصًا الفرنسيين، إلى سوريا والعراق للقتال إلى جانب التنظيمات المتطرفة ليست وليدة اليوم، ولا يُمكنُ رميها على عاتق الحكومة الحالية، لكنها وليدة ما تم اتباعُه على مدى سنوات وهو ما أوصل بطريقة أو بأخرى إلى التمزق الذي تُعاني منه المجتمعات الأوروبية، وهنا لا يُمكنُ إلا الإشارة إلى أن الحكومات الأوروبية او الفرنسية المتعاقبة اعتمدت سياسة الإنكار او الهروب إلى الأمام، إذ لم تود الإعتراف بالأخطاء التي يُمكن أن تكون تسببت بطريقة أو بأخرى بتغذية آفة التطرف، فسياسة الإقصاء المتبعة في المجتمعات الأوروبية والفرنسية ساهمت بطريقة أو بأخرى بتغدية الأفكار الراديكالية".

أزمة حضارية أوروبية&

في تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي، تم رصدُ إلتحاق 1432 فرنسيًا بالتنظيمات المتطرفة، منهم 413 يقاتلون إلى جانب الحركات الراديكالية في سوريا والعراق، فضلًا عن رصد عودة 200 منهم إلى فرنسا.&

وقال غيدير لـ "إيلاف": "المجتمعات الأوروبية تواجه ظاهرة مشابهة لتلك التي واجهتها في ستينات وسبعينات القرن الماضي، مع ظهور حركات إرهابية أو متطرفة تعادي الحكومات الموجودة، وتقوم بعمليات ضد هذه الحكومات والأنظمة، وكانت هذه الحركات الإرهابية كلها تابعة للتيار الشيوعي، سواء ما عرف بكتيبة الألوية الحمراء أو غيرها من الحركات الإرهابية التي سيطرت على أوروبا، على مدى أكثر من عقد وكانت تجذب إليها أغلب الشباب الذي يود القيام بثورات وتغييرات جذرية في المجتمعات وقلب الأنظمة في ذلك الوقت، خصوصًا تلك التي يدعوها بالرأسمالية والإمبريالية والإستعمارية، ومنذ عشر سنوات بدأت الحركات المتطرفة الإسلامية أو الجهادية تأخذ مكان الحركات المتطرفة الشيوعية، ويُنظرُ إليها من قبل الشباب الغربيين من غير أصول مسلمة او الذين اعتنقوا الإسلام أخيرًا كالحركات الثورية المشابهة لتلك التي وُجدت في ستينات وسبعينات القرن الماضي". &

تطرف سياسي

هناك الكثير من العوامل التي تفسر هذا الإنجذاب نحو الحركات الجهادية، منها أزمة الحضارة الأوروبية والغربية والتطورات الحديثة، خصوصًا الأزمة الإقتصادية التي جعلت مبادئ العمل أو مبادئ الإندماج في المجتمع تُصبح صعبة جدًا. وتؤول هذه العوامل إلى عقبات كبيرة أمام هذه الحكومات. يتابع غيدير: "السبب الثاني يعود إلى عدم وجود أيديولوجيات أو أحلام ممكنة لهذه الفئة من الشباب التي تريد اعتناق آراء ومبادئ جديدة، تبحث عن إمكانات التغيير الجذري التي لم تكن متوافرة في هذه المجتمعات الأوروبية، خصوصًا الفرنسية، من حيث إصلاح المجتمع وإصلاح السياسة والإقتصاد بصفة عامة، فهذا ما جعل من يريدون هذا التغيير الجذري يعتنقون مظاهر التطرف السياسي، كالإنضمام إلى أحزاب سياسية مثل أقصى اليمين في فرنسا، او التنظيمات التي تدعو إلى المحاربة عبر حمل السلاح، من دون إخفاء أن هناك أزمة من ناحية السياسات الإندماجية التي تم تطبيقها في السنوات الماضية في ما يخص الجاليات المسلمة عمومًا في أوروبا والغرب، حيث إن هذه الجاليات لا تزال تشعر أنها غريبة عن هذه المجتمعات وغير مندمجة وضحية ممارسات شبه عنصرية، ما يجعلها تعود إلى أصولها، وفي غالبية الحالات تتبنى هذه الفئات مشاكل البلدان التي تأتي منها، أو مشاكل العالم العربي عمومًا". &

الجريمة والعقاب&

ناقش اللقاء الدولي لمحاربة الإرهاب تشكيل هيئة قضائية لتقاسم تجارب الدول في مكافحة الإرهاب العالمي. من هنا أتى وضعُ استراتيجية لمحاربة الإرهاب على الإنترنت، تقوم على إخضاع الشبكة العنكبوتية لرقابة متواصلة، وإشاعة خطاب يشير إلى آفة التطرف وكيف يُمكنُ أن تنعكس سلبًا على حياة الفرد.

ودعا المفوص الأوروبي لمكافحة التطرف والإرهاب جيل دو كيرشوف، إلى إقامة مراكز تعمل على إعادة تأهيل المتطرفين في سياسة تقوم على إعادة دمجهم في المجتمعات الأوروبية، في حين تساءل ميشال كونينسك، مدير الوكالة الأوروبية للتعاون القضائي: "إن لم تعد عقوبة السجن مانعًا أمام الأفراد لعدم الإلتحاق بالحركات الأصولية، فكيف يُمكنُ للمجتمعات أن تعيش بأمن وسلام؟"

ويأتي ذلك في وقت كشفت وزارة العدل الفرنسية أن بين 15 إلى 20 في المئة من حالات التطرف تنبع من السجون الفرنسية.

قال غيدير: "ظاهرة التطرف منتشرة في السجون الفرنسية، لأن حوالى سبعين في المئة من السجناء في فرنسا هم من أصول أجنبية، من المسلمين، وهذا ما يجعل ظاهرة الإسلام السياسي والحركات الإسلامية تطغى على السجون الفرنسية، وهي ليست ظاهرة خاصة بفرنسا وجديدة عليها، ففي الولايات المتحدة مثلا رُصدت في تسعينات القرن الماضي الحركة نفسها عند الأميركيين السود الذين اعتنقوا الإسلام، لذلك فإن تركيبة السجون في الدول الغربية وعدد السجناء من أصول أجنبية أو الذين اعتنقوا الإسلام يجعلان ظاهرة الإسلام السياسي تطغى على هذه السجون، وبالتالي فإن السياسات المتبعة لا تُناسب طبيعة وعدد السجناء من أصول أجنبية في فرنسا".

معالجة تمزق المجتمعات&

ترى غيديالي أن على السلطات الفرنسية فرض رقابة فعالة على كل ما من شأنه تغذية الأفكار الراديكالية على الأراضي الفرنسية، ولا يكمنُ الحلُ في وقف بيع الكتب لمن يُعتبرون الآباء الروحيين للإرهاب الجديد، "على سبيل المثال كتاب 'دعوة المقاومة الإسلامية العالمية' لأبو مصعب السوري، الذي يعتبره البعضُ الأب الروحي لما يُعرفُ اليوم بالجهاد الجديد، لأنه غدا باستطاعة الجميع الحصول على نسخة منه عبر شبكة الإنترنت، المشكلة اليوم هي في أن الحكومات الأوروبية أو الفرنسية المتعاقبة لم تسع لمعالجة الأسباب التي أدت إلى تمزق المجتمعات، فهي لم تهتم لذلك يوما".

تابعت: "أي تدخل عسكري فرنسي في الخارج يأتي تحت مسمى محاربة الإرهاب، وأود هنا أن أؤكد أن أي تدخل عسكري ضد التنظيمات المتطرفة يُعطي أهمية لهذه التنظيمات الأصولية، التي تحمل بالأساس راية محاربة الغرب".

وتبقى الإشارة إلى أن كل اللقاءات الدولية والقوانين، التي أقرتها الحكومات الأوروبية لمواجهة التطرف، يغيب عنها إيجاد تطبيقات فعلية في سياسة مكافحة الإرهاب مع حركات متطرفة، كتنظيم داعش، وهي تشهد متغيرات عدة. فتنظيم الدولة الإسلامية يسيطر على مساحات شاسعة في سوريا والعراق، ويعمد إلى جذب الشباب الغربي، بعكس تنظيم القاعدة الذي كان يسعى لمهاجمة العالم الغربي من دون أن يكون له موطىء قدم، فهو كان ضيفًا لدى حركة طالبان في أفغانستان.&

&