مرّ الرجل في عقود مختلفة، كان هو ثابتا لكن بسمات متحولة، منذ الستينات الماضية إلى اليوم. أي عقد منها كان عقد "الرجل" بامتياز؟

لندن: كثيرًا ما نتساءل لو كان هناك آلة للزمن، ذلك الموضوع الأثير في روايات الخيال العلمي... فإلى أي زمن نود أن نعود؟ أو أي زمن نتمنى أن نمضي اليه في المستقبل؟
في العادة، نتوقف للتفكير أين ستضعنا طبقتنا الاجتماعية في حقبة أخرى من التاريخ فضلًا عن الحروب والأمراض ومتوسط عمر الانسان وكل ما في حياة الانسان من منغصات. وفي بعض البلدان بينها بريطانيا مثلا سيرى سكانها، إذا عادت بهم آلة الزمن المتخيلة إلى الثلاثينات، أن كوبا بلد أفضل من بلدهم. ويصح الأمر على الجندر ايضا. ففي الأفلام القديمة كثيرًا ما يبدو الشباب اقرب إلى الرجال مما يبدو رجال بضعف أعمارهم اليوم. ولهذا السبب، يرى مراقبون أن أزياء صرعات تمت إلى زمن مضى تعود مرة تلو الأخرى.
كثيرًا ما يُقال لنا إن عالم اليوم أكثر ثراء وأمنًا وحرية وترفيهًا، وهذا ما ستؤكده الأرقام على الأرجح. ولكن هناك من يتساءل ما إذا كان هذا التحسن يصح على الرجولة ايضا. ولتكوين فكرة عن ذلك سنطلب من آلة الزمن أن تعود بنا إلى عقود سابقة.
&
ستينات الغضب&
كان عقد الستينات حافلًا، وانتهى غير ما بدأ. شهدت سنواته الأولى أفلامًا مميزة مثل "غرفة في القمة" و"ليلة السبت وصباح الأحد"، وتحويل روايات نشرت عام 1960 مثل "هذه الحياة الرياضية" و"نوع من الحب" إلى افلام ناجحة. وكانت كل هذه الأعمال تنظر إلى الوراء وتطالب بحق الفرد في بداية جديدة، وبموقف جديد من الانتماء الطبقي وفكرة جديدة عما يعنيه أن يكون المرء رجلًا. ويعلن آرثر سيتون بطل فيلم "نوع من الحب" وهو يلبس قميصًا جديدًا أن من حقه أن يبدو انيقًا كي يغوي النساء ويسكر، لكنه يكره العمل الذي يتيح له أن يفعل ذلك.&
وأصبح رجال من الطبقة العاملة مهندمون على غير العادة، وقام بأدوارهم الن بيتس والبرت فيني ولورنس هارفي، نجومًا سينمائيين ينافسون النجوم المستوردين من هوليوود فضلا عن تحولهم إلى أمثولة تُقتدى ورموزًا جنسية. وتأكيدًا لعبارة "الشباب الغاضب" التي سادت وقتذاك، كان هناك أجواء صحية معادية للسلطة في الحانات والمعامل والملاعب الكروية.
في ذلك العقد، حطمت موجة الهيبي القوالب السابقة. وحدث انقلاب في طريقة الملبس واصبح التفكير يتركز على الذات واختلطت العلاقة بين الجنسين بالحركة النسوية الصاعدة وانتشار المخدرات وموسيقى الروك أند رول. ومع السلام والحب، جاء وقت التفكير في مشهد رجال ذوي شعور طويلة يخالطون نساء ذوات تسريحات قصيرة أقرب إلى تسريحات الرجال وتنورات تموه تقاسيم الجسم.&
&
سبعينات الالتباس
تشير نظرة سريعة إلى برامج التلفزيون البريطاني التي كانت تُعرض في ساعات الذروة إلى أن هذا العقد كان زمنًا مكفهرا للرجل، وللثقافة بصفة عامة. إذ كانت مسلسلات ذلك الزمن، الفاشلة منها والناجحة، تصور الرجل حقيرًا يعيش في وهم، رجعيًا في علاقاته الجنسية ومتعصبًا في مواقفه. وفي مطلع هذا العقد نُشر عمل الكاتبة والناشطة النسوية جيرمين غرير "المخصي الأنثى" عام 1970. وبدا الرجل وقتذاك كأنه فصيلة محكوم عليها بالانقراض في وقت قريب.&
ولدى النظر إلى الوراء، كانت ذرى ذلك الوقت موسيقى الروك التي تتميز بملابس مغنيها الغريبة، فضلًا عن مواقف فنانين مثل مارك بولان وديفيد باوي المترددة من المرأة. ولم يعد الرجل يقبل على الصرعات الجديدة في عالم الأزياء فحسب، بل أخذ يستكشفها ويفجرها ايضًا. وأتاحت موسيقى الديسكو للرجل أن يغني البوغي كما تغرد الطيور لأول مرة في حياتا، وفتحت أفقًا جديدًا على الانتماء العرقي.&
في هذه الأثناء، حافظت شعبية لعبة الرماية بالسهام الشائعة في الحانات البريطانية على بقاء كروش البريطانيين كبيرة بسبب البيرة التي تُستهلك اثناء اللعب وأثناء مشاهدة التلفزيون في البيوت.&
وظهر روك البانك في البداية بوصفه شكلًا غاضبًا من اشكال الروك، لكنه تحول ثقافة فرعية اكتسبت مسحة ربطتها بذوي الرؤوس الحليقة. وبالاقتران مع مشاهد ما بعد البانك ستبدو صورة الرجل عن نفسه متشظية وهو يلج الثمانينات.&
&
ثمانيات الرأسمالية
قدَّم المهنيون الصاعدون من شباب الطبقة الوسطى نسخة جديدة من شخصية الرجل استحقت كل ما لاقته من ازدراء: قمصان مخططة وربطات عنق طويلة وحمالات سراويل حمراء وعربدة يوم تقاضي الراتب، في ممارسات تؤكد صورة الرجل ـ القرد المهووس بالمال والمعاق عاطفيًا. وسخرت رواية مارتن ايمس "المال" من هذا النمط بطريقة فنية ملتوية ولكن كان هناك باستمرار ادراك بأن المصرفيين وغيرهم من الأوغاد باقون. ثم انفجرت الأزمة المالية في العام 2008.
وحلت عضلات الذراع المنتفخة والأجساد المتعرقة في قاعات اللياقة البدنية محل العضلات المفتولة التي عرفتها العقود السابقة واصبح الرجل أكثر وعيًا بأن جسمه ليس شيئًا يُكسى ويُخفى فقط.&
وبعيدًا من مركز المال والأعمال، ظهرت موسيقى وفرق تتمثل رسالتها في أن بامكان الرجل أن يرتدي ملابس مستعملة من محلات المنظمات الخيرية والمتاجر الرخيصة ويبقى رجلا. وعادت ازياء "المود" التي عرفتها الستينات إلى الظهور.&
وكانت موسيقى الراب المستوردة مليئة بالمشاعر الشوفينية رغم وفرة التمييز الجنسي فيها ايضا من وجهة نظر سوسيولوجية. وكانت بعض الفرق تعكس ما تسمعه في الشارع. لكن غضبها كان صامتًا عندما انتقلت إلى بريطانيا. ويمكن النظر إلى عقد الثمانينات على انه عقد زاهي الألوان سمته التسامح مع بعض الاتجاهات التي كانت تسبح ضد التيار.
&
تسعينات الصرعات
بدت ثقافة الشباب العابث نقطة عابرة على شاشة العقد. وكان ما أُنتج من مسلسلات تلفزيونية وموسيقى تمثل هذا الجيل يشير إلى أن الأمر يتعلق بقلة من الأشخاص يدخل جيوبهم مال كثير. وأصبح الملعب الكروي، إحدى حلبات هذه الفئة، صناعة رأسمالية بل ومتعولمة منعت دخول الشباب الحقيقيين وأبقتهم خارج أسوارها.&
وفي مواجهة التيار الرئيس المدفوع بالاعلام، عملت الموسيقى الراقصة على إنهاء الانقسام بين الجنسين، على الأقل في حلبات الرقص وثقافة الملاهي الليلية. وفتحت شركات الطيران الرخيصة مثل ايزي جيت وراين اير اوروبا بطريقة جديدة وأصبح بامكان الجميع أن يتمتع بإجازة استهلاكية في برشلونة أو قضاء وقت ممتع في براغ.&
وقدمت روايات توني بارسونز ونك هورنبي صورة أكثر مكرًا لرجل نهاية القرن، وهو يحاول التوفيق بين الأبوة والحرية والمسؤولية وضغط الأقران والحنين إلى نماذج سابقة ومعرفة لا تُنكر بأن اليوم في الحقيقة زمن أفضل لغالبية الرجال.&

أول عقد في الألفية الثالثة: الرجل الرقمي
مع تطور غوغل وثورة الأجهزة المحمولة والهواتف الذكية، ولد الرجل الرقمي. وإزاء تدفق المعلومات والأفكار من سائر أنحاء العالم على مدار الساعة، كان حتميًا ألا يتميز مشهد منفرد في حياة أي بلد. واقترن موت القرص المدمج بموت المَشاهد المتحزبة في الثقافة الشعبية، وبدا أن طابعًا باهتًا واحدًا أخذ يطغى سواء من حيث التوجه الاستهلاكي أو المواقف السياسية التي باتت كلها وسطية أو السينما التي أصبحت ناجحة في شباك التذاكر أو غيرها من الأشكال الأخرى.&
ونشأ رجل السيارة الذي جسدته برامج مثل "توب غير" في بريطانيا وكأنه يريد أن يقول إن ما طرأ من تحسن على السيارة أكبر مما طرأ على الرجل. كما شهد هذا العقد رجل المهرجانات ونسخته الدهرية، ورجل الأطعمة الذي يتغزل بالطماطم المستوردة من صقلية والخبز المصنوع بأيدي حرفيين وليس في مخابز تجارية، ورجل الدراجة الهوائية متحديًا رجل السيارة.
وحلت شبكات التواصل الاجتماعي محل الدردشات الودية المباشرة، وأخذ المتزوجون يفضلون البقاء في البيت لمشاهدة مسلسل "الأصدقاء" الاميركي، واصبحت سهرة الشباب فعالية يُشار اليها بين مزدوجين. وانتشر استخدام الفياغرا لكن نتائجها كانت موجهة مباشرة صوب عشيقات وهميات من المجر وتايلاند.&

ثاني عقد في الألفية الثالثة: الرجل المأزوم
ليس كله عقدًا من الانتحارات وأسباب الكآبة والارهابيين والمنحرفين جنسيًا، لكنه يبدو هكذا احيانًا. يوازنه وبطريقة هستيرية رجال يدَّعون انهم نسويون أكثر من النساء، وكارهون للرجولة. ويعكس الاعلام الحالات المتطرفة والاستثناءات بالدرجة الرئيسة رغم عدم ظهور حلقة مركزية حتى الآن في منتصف هذا العقد.
وتقول صحيفة ديلي تلغراف في استعراض هذه النماذج من الرجال الذين افرزتهم العقود السابقة انهم عينة، بصرف النظر عن سعة تمثيلها، يشير ما تثيره من تعليقات إلى وجود بلبلة واسعة بين هؤلاء الرجال، وتوق ملح إلى هوية أوضح يشوبه كره للذات. وهناك نوع من "النزعة الرجولية" من أخذ دروس أكاديمية في موضوع الرجل تحديدًا إلى نشر كتب بتمويل من الجمهور واطلاق مواقع خاصة بذلك، لكنها نزعة لن تصمد لأن الرجولة موجودة في كل التاريخ والثقافة والمطلوب هو الانفتاح وليس تمييع جنس الرجل.&
وتلاحظ صحيفة ديلي تلغراف أن ملابس الرجال تمر الآن بواحدة من حقباتها الانثوية الدورية وان انتشار اللحية الطويلة ينبغي أن يُقرأ على انه استثناء، باعث بيولوجي من هورمون التستوستيرون في مواجهة سراويل الجينز الضيقة والقمصان ذات الألوان الفاقعة وصنمية عامة للمثلية وصيغة "المرأة في الرجل".&
لكن هناك همسًا بأن المرأة تريد عودة الرجل الفحل بسرعة، وبالتالي لن يكون مستغربًا أن نرى عودة صاحب السترة الجلدية والحذاء العمالي والشعر الكثيف في أي يوم.&
&
&&
&