خاص بايلاف من الرياض: الدكتور ابراهيم المطرودي متخصص في اللغة العربية وفي البحث في التراث الديني ونقده، وهو واحد من الذين اشتغلوا بالقضايا الفكرية الإسلامية المعاصرة، وله آراء عديدة تختلف عن السائد.&

في مقابلة مع "إيلاف"، يقول المطرودي إن الإقتداء بالأمة اليهودية أولى من الإقتداء بالشعب الياباني، ويرى كذلك ضرورة أن تشمل هيئة كبار العلماء علماء شيعة فلا تكتفي بعلماء السنة، كما ذكر أن بيع الكتب التي تثري التعصب الديني وتداولها من خوارم الوطنية، مشددًا على "أن ثقافة الثأر للأسف بقيت راسخة في مجتمعنا مع أنها ضد الدين".

يصف المطرودي التعصب بأنه حالة اجتماعية، يقول: "كل الناس متعصبون. نحن ورثنا التعصب. فالجميع يرى مذهبه الصح وغيره على خطأ، فالمشكلة الآن أن الاختلاف والتعدد والتمذهب يصادم موضوع التكفير".

ويسأل المطرودي: "لماذا غضب الوعاظ والدعاة من المعتزلة في موضوع العقل واللجوء إليه وهم الآن يستدلون به؟ وكيف يُقبل حديث "المرأة ناقصة عقل ودين" وكيف يُروى والإسلام والأديان كلها لم تفرق في التكليف بين الرجل والمرأة. فُرضت العبادات عليهما على حد &سواء، فلماذا إذًا يقبل مثل هذا الحديث؟ البعض يفسر هذا النقص ويقول إن المرأة ناقصة الدين بسب حيضها. يا سبحان الله! من جعلها تحيض هو الله تعالى، فكيف يخلقها بصورة وبسبب هذه الصورة يكون نقصان دينها؟".

والمطرودي يحمل ماجستير في اختيارات أبي الحسن بن الضائع النحوية جمعًا ودراسة، والدكتوراه في مرويات نحاة الكوفة إلى نهاية القرن الثالث وأثرها في النحو والتصريف، وهو أستاذ مساعد في كلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض بتخصص النحو والصرف، وكاتب في جريدة الرياض، وعضو في لجنة الجودة في كلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، وعضو هيئة تدريس متعاون في جامعة المعرفة العالمية. له العديد من البحوث المنشورة، منها "ظاهرة الجمود في اللغة العربية"، و "ما لا يلزم تعليمه لمتعلم العربية"، و"متون موطأ مالك: دراسة نحوية"، و"تقعيد اللغات في النحو العربي".

&

ابراهيم المطرودي في مقابلة خصّ بها إيلاف

&

في ما يأتي متن الحوار:

احتفلت السعودية بعيدها الوطني السادس والثمانين، وكانت لك عدة تغريدات تتحدث عن مفهوم الوطنية. كيف ترى هذا المفهوم وكيف يمكن تعزيزه؟

المفاهيم والمصطلحات مثل الوطن والمواطنة أمور قابلة للتطور والتغير، ومرتبطة بحركة المجتمع، فالمجتمع الذي نشأ قبل 100 عام يختلف عن المجتمع الذي نعيش فيه الآن، مفهوم الوطن والمواطنة يتسع بحسب اتساع المجتمع وما فيه من اختلافات وطوائف متعددة، فالوطن يتسع ولا يضيق؛ والعلاقة فيه قائمة على الدنيا وإصلاحها فقط.&

&خوارم الوطنية &

غردت طالبًا منع الكتب التي تنتقد المذاهب الأخرى، كالشيعة مثلًا، ورأيت أن السماح ببيع مثل هذه الكتب من خوارم الوطنية، الا يتناقض طلبك بمطالبك الدائمة بالحرية؟

لا أظن أن الحرية تتفق دينيًا مع التكفير وإخراج الناس من الدين. إذا كنا نؤكد أن الدين يكفل الحرية للإنسان وأن الإنسان مسؤول عن نفسه، فلا يمكن أن أقبل أن يأتي شخص ويكفر من يشاء، لا دينيًا ولا بالمواطنة، فمانع الانشغال بتكفير الناس وتفسيقهم أمران: الدين ومفهوم المواطنة.

كان الدين يقول إن للإنسان الحرية في العلاقة التي يراها مع الله، فهذه حرية ضمنها له الدين، فكما ضمنها له الرب فواجب علي أن أضمن له حريته، فلا يكون هم المواطن البحث عن تكفير المجتمع والبحث إذا كان هذا مسلما أو غير مسلم لأن الشعب سواء في المواطنية بغض النظر عن الدين والمذهب. في التاريخ الإسلامي القديم، تعايش أهل الكتاب مع المسلمين، وكان الخطاب الثقافي الديني يصفهم بأنهم أهل كتاب وأهل ذمة وليسوا كفارًا.

البعض يرى السماح بتأليف مثل هذا الكتاب تعددية، خصوصًا أنك في هذا الوقت لا تستطيع منع نشر أي كتاب؟

إذا كان المنطلق الذي ينطلق منه الإنسان في التكفير أو التفسيق أو التبديع منطلقا دينيا، فهدف كل هذه المصطلحات النهائي هو العزل والفصل. عندما لا نشترك جميعًا في الدين أو المذهب فحينها لا أشترك معك في المجتمع والعمل. إذًا، فالسماح بوجود مثل هذه الكتب لا يعتبر تعددية بل محاربة للتعددية، وانشغال أفراد المجتمع بعضهم بدين بعض، فالتكفير بذاته معارض لما سبق، ومعارض للدين نفسه الذي ضمن حرية الناس وفهمهم الدين. في تاريخ الإسلام، نشأ العديد من الطوائف والمذاهب، والدليل الحديث المشهور "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة". كان للتكفير حضور كبير في كتب العقائد، فلماذا أبرز مصطلح التكفير ويكون هو الشغل الشاغل بين الناس والحياة الآن مختلفة؟ لماذا أبعث مثل هذا التراث؟! أقول إن هذا مواطن وله حقوق المواطنة، وهو حر والدين ضمن له هذه الحرية. يعني لو أتى شخص وكفّر المعتزلة والأشاعرة، فهذه مصادرة تامة وإنهاء. التكفير حين يُؤذن به للناس، ويصبح حقًا للجميع، سيشغل الناس جميعًا.

هل منع مثل هذه الكتب يمنع المذهبية والتعصب بين الشعوب؟

ربما يكون التعصب حالة اجتماعية. كل الناس متعصبون. نحن ورثنا التعصب. فالجميع يرى مذهبه الصح وغيره على خطأ، فالمشكلة الآن أن الاختلاف والتعدد والتمذهب يصادم موضوع التكفير. هناك جماعات كثيرة في التاريخ الإسلامي كفرت جماعات وأفرادا، فالتكفير مضاد للتعدد والإختلاف، وأنا أريد التنوع والإختلاف في المجتمع، لأن هذا الإختلاف ما يقودنا إلى معرفة الحقيقة، لكن إذا استخدم الناس سلاح التكفير فهذا قضاء على التعددية والتنوع والإختلاف، وتحول دون معرفة الحق. إذًا، مشكلة التكفير ليست في صدام مع الدين والمواطنة فحسب، بل في صدام ايضًا مع الإختلاف والتنوع.&

الحرية والدين

البعض يرى أن الحل في علاج الصراع السني الشيعي في أن تشمل هيئة كبار العلماء مذاهب متنوعة، أي سنة وشيعة؟

حقيقةً أنا مع هذا الرأي. لو انطلقنا من مفهوم المجتمع، فالمجتمع مكون من طوائف، ولكل طائفة علماء مرجعيات لها، هم إذن موجودون في الواقع، والفرق أن ينظّم هؤلاء العلماء في مؤسسة دينية هي هيئة كبار العلماء. هؤلاء المشائخ يمثلون مجموعة، وهذه المجموعة تتبع وتتابع هؤلاء المشايخ وتبحث عن فتاويهم ومحاضراتهم. عندما يريد كل مذهب اقتطاع الأفكار السيئة من المذهب الآخر، فالحل هو أن نجتمع لا أن نفترق. عندما تهمشني وتهمش مذهبي ولا يكون لي دور حقيقي في مؤسسة دينية فأفكاري السيئة تبقى، وفرق كبير بين أن يكون حديثي لفئة خاصة وطائفة خاصة وحدها، فحينها لن تبرز سوى الأفكار السيئة التي انعزلت من أجلها، وبين أن يكون حديثي شموليًا يصل إلى أكبر عدد من الطوائف والمذاهب، فالخطاب حينها سيكون مختلفًا.

تحدثت دائمًا عن الحرية، وقلت إنها تتعثر في المجتمعات المسلمة. هل من تعارض بين الحرية والدين؟

بالنسبة إلي لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الدين والحرية، لأن الدين ضمن الحرية أساسًا، ولم يجبر الناس على الدخول فيه. ذهب الرسول إلى المدينة وكان فيها يهود ولم يجبرهم على اتباعه. بقي اليهود يهودًا وصارت بينهم وبين المسلمين وثائق وعقود. وفي الفتوحات الإسلامية، مع أن لي رؤية مختلفة في الفتوحات الإسلامية، لم يكن شرط تغيير الدين أمرًا مطلوبًا، وكان يستعاض عنه بالجزية.&

رؤية جديدة

ما هي رؤيتك المختلفة حول الفتوحات الإسلامية؟

برأيي أن للفتوحات الإسلامية سببا، هو في ظني أن الفاروق عمر بن الخطاب صاحب الذكاء والخبرة رأى أن العرب بعد وفاة الرسول بدأوا بالردة وترك الدين، فإذا كان الرسول هو من دعاهم وعلمهم وارتدوا عليه بعد وفاته، فاحتمال تركهم الدين وارتدادهم في أزمان غير الرسول أكبر. وجد الحل في الفتوحات الإسلامية التي كانت وسيلة لحفظ كيان المجتمع الجديد وتوحيده، فالعربي بدلًا من أن يرتد ويترك الدين يقوم بالجهاد والفتوحات ونشر الدين في بلاد أخرى، كما يقال الآن عندما تقوم دولة بحرب معينة فكأنما تقوم بنقل مشكلاتها الداخلية إلى الخارج. وكانت الأمم جميعًا تقوم بذلك، فالفتوحات كانت قضية بشرية غير خاصة بالمسلمين وحدهم، فعندنا الاسكندر في اليونان، والفرس غزوا اليونان كذلك.&

&

&

ذكرت في منتدى الثلاثاء الأسبوعي في القطيف أن المعوق الأساس للحرية في نظرك هو عدم قابلية الإنسان لفكرة الحرية، وعدم احتياجه إليها إضافة إلى أنك تقول إن الاختلاف في الرأي ضرورة من ضرورات التقدم. هل من توضيح؟

لماذا يقف الإنسان ضد الأفكار الجديدة؟ هل لأنه يرى أن لا قيمة لها؟ هل لديه اجابات أفضل من المعارف الجديدة؟ برأيي أن سبب رفض الناس الحرية خوفهم من الناحية الدينية، لأنهم يرون في الحرية فساد الأخلاق فحسب، أما في الموضوع الفكري فالإنسان نفسه ليس عنده شعور حقيقي بالاحتياج إلى الحرية إلا عندما تزيد معرفته. عندما يسمع ويقرأ أقوالًا مختلفة من ناس مختلفين تنشأ عنده فكرة مفادها لماذا لا يكون هناك حرية، فيكون هذا رأيًا وذلك رأيًا مخالفًا مقبولًا أيضًا وهكذا. والناس قد لا يرفضون الحرية بل من الممكن أنهم لم يعرفوا بعد الحاجة إليها، وبرأيي هذا أقرب.

في نظرية الحسن والقبح العقليين، هل للأفعال قيمة في ذاتها، بغض النظر عن وصف الشرع لها كحسنة او قبيحة؟ هل يصلح العقل الجمعي (عرف العقلاء) مرجعًا لاعتبار الحسن والقبح في الافعال؟

يتم تداول هذا السؤال في مواقع التواصل الإجتماعي، وكان لي مدخل في الحديث عن التحسين والتقبيح: بدأ الخطاب الديني يحتكم إلى موضوع العقل، فتجد الواعظ أو الداعية يذكر لك اكتشافًا علميًا ويجد له نصًا يدور حوله. يقول شاهدْ الإسلام قد جمع العقل والدين، فيقول لك بالعقل يتبين لك أن الدين هو الصحيح، فكثير من الوعاظ والدعاة يريد اثبات الدين بالعقل ويجعل من العقل دليلًا للوصول للدين. إذًا لماذا غضب الوعاظ والدعاة من المعتزلة في موضوع العقل واللجوء إليه وهم الآن يستدلون به؟ حركة العقل هي المساحة الأكبر في الإسلام، والمشكلة الأساس في ظني هي أن المسلمين لم يكملوا جهود مدرسة الرأي التي يمثلها الأحناف وبعضهم ينسب لها كذلك الإمام مالك، بل ساروا في مدرسة النقل والأثر، ولقرون طويلة بقيت هذه المدرسة هي المسيطرة حتى أثرت في العقل الإسلامي نفسه، ومن ثم أصبح الحديث عن التحسين والتقبيح العقليين غير مجد ما دام الناس قد أهملوا الحديث عنه سنوات، واحتكام الوعاظ والدعاة إليه خلل في المنهج، ومخالفة صريحة لموقفهم المخوّف من العقل.

المشكلة في التراث

جمع مؤتمر غروزني الأخير عددًا من علماء المسلمين. من ضمن توصياته إقصاء السلفية من أهل السنة والجماعة؟ ما رأيك بهذا المؤتمر وببيان هيئة كبار العلماء تجاهه ودعوتها إلى عدم النفخ في النعرات والعصبيات؟

لست مع الداعين إلى المؤتمر ولست مع مناهضي المؤتمر، فالداعون يريدون حصر الإسلام في طائفة ومذهب معينين، والسلفية كذلك تقوم بالدور نفسه. فالسلفية المعترضون على هذا المؤتمر يرون أنفسهم ممثلي الإسلام وممثلي الفهم الصحيح للسلف الصالح. والحل برأيي هو أن يعيد الطرفان النظر في الحرية والتنوع والتعددية والإختلاف، فالأمة اختلفت قديمًا وحديثًا ومستقبلًا، وإقامة مثل هذه المؤتمرات تقدح زناد هذه الإفتراقات في الأمة.

يرى البعض أن داعش تتبع في فتاويها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. هل تقف الدعوة الوهابية حجر عثرة أمام تقبلنا المذاهب الأخرى؟

الحديث عن الوهابية قديم. لم يأت الشيخ محمد بن عبدالوهاب بمعانٍ جديدة، بل كانت موجودة قبله. برأيي أن ما يثار عن الأفكار المتطرفة في مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب موجودة في المذاهب الأخرى. يعني مثلًا باب الجهاد موجود في المذاهب الفقهية كلها، وفي قضية العلاقة بالآخرين من المسلمين لا شيء مختلف في دعوة محمد بن عبد الوهاب عن بعض المذاهب الأخرى، إذًا مشكلتنا في التراث وليس في دعوة فلان أو غيره. التراث نفسه يؤسس لمحاربة المبتدع صاحب الفكرة الجديدة، إذًا هي ثقافة قديمة، فحين نواجه أي دعوة جديدة يفترض فينا مواجهة وتصحيح الأساس تصحيح العمق الأساسي لهذا البلاء. فسواء استقى محمد بن عبدالوهاب أو غيره من التراث، يجب معالجة أساس المشكلة خصوصًا في موضوع الجهاد وموضوع الموقف من المخالف.&

في مقالك "الإرهاب وتربية المواطنين" لمت من يفسر الإرهاب بأنه مؤامرة خارجية، وفي الوقت&نفسه لم تؤيد من يلوم الخطاب الديني. كيف تفسر انغماس شبابنا في الجماعات المتطرفة؟

تجد بعض الناس يبحث عن المسؤول، فيقول إن ذهاب الشباب إلى أفغانستان سببه الخطاب الديني الموجود. إن الذي يريد تحميل جماعة معينة المسؤولية لن يصل إلى حل، ولا تحل الأمور بإدانة الآخرين بل بإدانة الأفكار الباعثة لها؛ فالمجتمع مكون من مجموعات وجماعات، من كتاب ومثقفين ومفكرين وعلماء، وهذه الجماعات تشكل قوى وبالتالي تشكل جسدًا واحدًا، وهذه القوى مجتمعة مسؤولة عما جرى، وسكوتها عنه كان مسايرة له؛ إذًا الجميع مسؤول.

&الأمة اليهودية

في مقالك "النهضة وتجارب الآخرين" استغربت المطالبة بالإقتداء باليابان، وعندنا الأمة اليهودية. كيف يمكن الاستفادة من التجربة اليهودية؟

هناك أمة منسية في ثقافتنا وخطابنا وهي الأمة اليهودية، وسبب السكوت عنها هو الصراع التاريخي القديم، الناس كلهم ينظرون إلى اليهودي على أنه نجس وقذر، وهذا حال فلاسفة قدماء كفولتير وهيغل. ولا تجد كاتبًا يقول إن اليهودي كان مضطهدًا، فلماذا لا يكون سبب هذه الصورة الاضطهاد الذي واجهه. اليهودي كان مضطهدًا فطبيعي يكون موقفه من العالم موقف المعادي، كما أن اليهود أحييوا ثقافتهم وأحييوا لغتهم. وهناك نقطة أخرى وهي أن الكثير من العلماء المحدثين يهود كأنشتاين وماركس. فلماذا لا يلفتنا هذا البروز؟ ذكر مالك بن نبي في كتابه "المسألة اليهودية" أن الحضارة المعاصرة يهودية، صناعها اليهود سواءً في اطارها الثقافي أو الفكري أو المادي، فإذا كان هذا الكلام صحيحًا أفلا تستحق هذه الأمة الدراسة، كيف خرجت من العزل والإضطهاد ومن الفصل والإحتقار والإستهزاء إلى أمة قائدة للعالم؟ وأيهما أولى بالدراسة، اليابانيون أو اليهود؟ تصور لو أن المسلمين مروا بالتجربة اليهودية نفسها. فلم لا يكون لهذه الأمة اليهودية التفاتة، هو عدو تاريخي لا شك في ذلك وهذا موضوع آخر، فالرسول عليه السلام عندما قدم إلى المدينة لم يفترض أن اليهود أعداؤه بخلافنا نحن الآن، فنحن نعتبرهم أعداء، وكلهم أعداء ولا نفرق بين اليهود، أما الرسول فلم يعادهم في البداية. لماذا؟ أذكر أنني قرأت لأحد الكتاب ووجدته يجهد نفسه في بيان شر اليهود وأن طينتهم أشرار وشياطين. لنفترض صحة كلامه، مع أنه قطعًا لا يصح، فلِمَ تعامل الرسول مع اليهود ولم ينظر إلى تاريخهم مع أنه رسول وتروى له قصص الأولين والآخرين؟ لأن الرسول جاء يحارب الثأر بعكسنا نحن في هذا الزمن، إذ بقيت فينا ثقافة الثأر.

ذكرت كذلك في الفرق بيننا بين اليهود ليس في محبة العالم دينهم وكرههم ديننا، إنما في فهمهم منطق العصر وروحه. كيف يمكننا فهم منطق العصر وروحه؟

ثمة عوائق تعيق فهمنا المنطق وفهمنا الروح التي تحرك المجتمعات اليوم، أهمها أن الإنسان لا يريد أن يتعرف إلى الجديد، ويؤثر الحديث عن القديم خصوصًا إذا كان له حضارة قديمة كحضارة المسلمين والعرب. الإنسان لا يريد المعرفة والتعلم ومشاهدة المخالفين له. فعندما تثني على المخالف أو نقول مثلًا إن المنطق الذي يحكم العالم حاليًا هو منطق جيد، يأتيك شعور وكأنك تثني على غير المسلم. لا نريد أن نعترف بالفضل للناس الذين أنجزوا هذا العصر وحضارته وهذا برأيي سبب مهم، أخطأنا في تكوين رؤيتنا للناس من خلال الدين، وهو خطأ ديني أولًا، وجرّ ذلك إلى إهدار منجزاتهم الدنيوية. الأمر الآخر هو مانع ثقافي في المسلمين أنفسهم. فالمسلم يرى المنطق الصحيح والروح الصحيحة منطقًا قديمًا وروحًا قديمة، يعني مستقر في نفوس المسلمين أن كل شيء سابق في الدين هو الأفضل لفهم الدين وأن العلوم التي ألفها الأولون في الزمن الماضي هي الأفضل، وأن لا قيمة للمتأخرين من العلماء إلا بإعادتهم ما قيل في الماضي أو بالاختيار منه، ولا يحق لك أن تخرج برأي جديد. يعني في الخطاب الديني حين يكون هناك رأيان قديمان مختلفان لا يحق لك إلا اختيار أحدهما وعدم استحداث رأي ثالث، وهذا تضييق.

أين مدرسة العقل؟

نحن أمام نصوص عديدة مثل "المرأة ناقصة عقل ودين". كيف يمكن تفسير مثل هذه الأحاديث مما يراه البعض نصوصًا تنتقص من قيمة المرأة؟

حكمة المسلمين مدرسة النقل والأثر، وهذه يصيبها ما يصيب غيرها إذا لم يكن هناك تنوع واختلاف آراء ومدارس. فالمدرسة الباقية هي التي تستبد وتسود ثقافتها ومنطقها وإطارها المعرفي وروحها الأمة. معنى مدرسة الأثر عدم مراجعة الأحاديث، لأن مدرسة الرأي (العقل) الذي به تُكتشف طرائق محاكمة المتون مريضة. فمثلًا أنا مسلم متأخر، وإذا صحح البخاري أو مسلم حديثًا لا يحق لي مراجعته ولا تصحيحه، ولا يحق لي اعادة النظر في فهمه، لأن الفهم هو فهم المتقدم والسلف. هناك أحاديث كثيرة تتحدث عن المرأة لو درست سيتضح أن ثقافة الذكور أدخلت معظمها إلى مجتمعنا. لم ينظر إلى الأحاديث من هذا المنظور، مع أنه ملاحظ أن الرجل حين تعاب المرأة يفرح، والمرأة في هذا مثله، يعني كيف يُقبل حديث "المرأة ناقصة عقل ودين" وكيف يُروى والإسلام والأديان كلها لم تفرق في التكليف بين الرجل والمرأة. فُرضت العبادات عليهما على حد &سواء، فلماذا إذًا يقبل مثل هذا الحديث؟ البعض يفسر هذا النقص ويقول إن المرأة ناقصة الدين بسب حيضها. يا سبحان الله! من جعلها تحيض هو الله تعالى، فكيف يخلقها بصورة وبسبب هذه الصورة يكون نقصان دينها؟ لم تكن الأحاديث مدونة ومحفوظة، وهذا يطرح السؤال الآتي: هل استطاع الإنسان الذي وضع معايير الأحاديث أن يصفي الأحاديث كلها ويزيل الخطأ منها ويلغي الضعيف والموضوعات التي لا تصح؟ هل استوعب طرائق نخل هذه الروايات؟ ألا يمكن أن تكون ثقافة الذكورة سببًا من أسباب الإدخال في الحديث وغفل عنه أولئك المتقدمون؟