أشعر أنني كنت هنا من قبل. فالأمر مألوف بشدة: الرحلة الطويلة على الطريق الصحراوي تحت الشمس الحارقة، متجاوزين راعياً وحيداً يقود قطيعاً من الغنم، ثم محطة وقود منعزلة.

وبعد حاجز التفتيش، اقتربنا من شوارع مغبّرة تحفها بيوت مسبقة الصنع. وأفكّر في نفسي، كان مكانها خيم في عام 2009. ثم أتذكر أننا لسنا في سوريا، وإنما في الأردن، وأن هؤلاء اللاجئين ليسوا من العراق، وإنما من محافظة درعا ومن ريف دمشق.

هذا المكان أكبر بكثير من المكان الذي عهدته – وهو أفضل تنظيماً أيضاً – والمنشآت فيه أكثر ديمومة. زرنا محطة لتنقية مياه الصرف الصحي، وهي تعالج 80 في المائة من المياه العادمة التي ينتجها المخيم، وقيل لنا أن العمل جارٍ على إقامة شبكة لتوزيع مياه الشرب.

قبل سبع سنوات كنت أعمل مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في سوريا، وتعرّفت جيداً على مخيمين يأويان لاجئين فلسطينيين من العراق.&

وفي هذين المكانين، كانت اللهجات الفلسطينية تخص اللاجئين، بينما اللكنة الشامية تخص الموظفين الوطنيين. ولكن في هذه المرة، كان السوريون هم اللاجئين.

ثاني أكبر مخيم

هذا هو مخيم الزعتري، المعروف بأنه ثاني أكبر مخيم للاجئين في العالم. وهو هو أكبر مخيم للاجئين في الشرق الأوسط، أنشئ في الأردن في 29 تموز/يوليو 2012 لإيواء اللاجئين الفارين من العنف من سوريا المجاورة.

وهذه المدينة الصحراوية التي تبلغ مساحتها أربعة كيلومتر مربع تأوي 80,000 شخص، نصفهم من الأطفال. ويوجد حوالي 25,000 طفل في سن الدراسة، إلا أن بعضهم يأنفون عن التعلّم في وسط هذا الحر اللاهب.&

وتبذل منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) جهوداً كبيرة لإقامة بنى تحتية كي يظل المتسربون من المدارس يمثلون أقلية فقط. ويوجد في المخيم تسع مدارس تعمل على فترتين، ويدرِّس فيها مدرسون أردنيون توظفهم وزارة التربية والتعليم، وهناك مدرستان إضافيتان قيد الإنشاء. ويوجد حوالي 20,000 طفل ملتحقين بالمدارس حالياً. وتدرس البنات في الفترة الصباحية، بينما يدرس الأولاد في فترة ما بعد الظهر.

يدير المجلس النرويجي للاجئين "مختبرات الابتكار" التي تقدم الإرشاد ودورات تدريبية متقدمة لليافعين في المهارات المهنية: النجارة، واللحام، والخياطة، وبرامج الحاسوب. وتتيح لهم خدمة المجتمع المحلي في المخيم من خلال مشاريع من قبيل إصلاح الكراسي المتحركة، وصناعة المقاعد المدرسية، وتصميم اللباس المدرسي.

شاهدنا بعض الأعمال اليدوية الجميلة: سرير أطفال، صندوق مجوهرات، سُترات، وحتى فستان عرس. وبالطبع الناس يتزوجون في هذا المكان، ويؤسسون عائلات جديدة، ويعيشون حياة "عادية".
أطفال مركز مكاني

التقينا بعض الأطفال في مركز "مكاني"، حيث يحصلون على دعم نفسي وتربوي ويتعلمون مهارات حياتية. وثمة بنات يافعات حاذقات يشاركن في ألعاب على الكمبيوتر. وسألت طفلة اسمها أروى (11 سنة) كانت تنحني فوق شاشة الكمبيوتر، "ماذا تفعلين؟" وأجابت وكأنها تقول أمراً معروفاً للجميع "لعبة السماء". ويبدو أن الجميع يعرفون هذه اللعبة إلا أنا. وفي ساحة المركز يحاول مجموعة من الأطفال إثارة إعجابي كي ألتقط صورة لهم بالكاميرا التي أحملها إذ يبدأون بلعبة شد الحبل، ولكنهم سرعان ما ينسون وجودي حالما تبدأ منافسة الشد بينهم.

قهوة العميد

جذب انتباهي كشك مصنوع من الصفيح، ومكتوب على واجهته "قهوة العميد". يرحب بي رجل وابنه واقفين في الكشك بابتسامات دافئة. وصل أبو أنس وأسرته إلى الزعتري من ريف دمشق قبل ثلاث سنوات ونصف. وأطلق على محله اسم القهوة الأردنية الشهيرة لأن "تلك القهوة هي ما بدأنا ببيعه وما زلنا نبيعها حتى الآن".

&أصرّ أبو أنس أن يقدم لي الضيافة ورغم احتجاجي لم يقبل أن أدفع سعر قارورة ماء. ابتسم وهو يقدمها لي وقال "أنت تمنحيننا دعاية مجانية!". وقد أوفيت بذلك إذ نشرت صورة لدكانته على حسابي في موقع تويتر فور وصولي إلى بيتي في ذلك المساء.

آبار ارتوازية

تأتي المياه في الزعتري من آبار ارتوازية على عمق 450 متر، وتتم تنقيتها وتوزيعها من قبل اليونيسف وشركاء آخرين. وتجري عملية التوزيع عبر صهاريج يقودها متطوعون من اللاجئين. ويحصل كل لاجئ على 35 لتراً من المياه يومياً. ومعظم العمل في المخيم يؤديه السوريون أنفسهم كجزء من برنامج للنقد لقاء العمل. ويحصل البعض على دخل إضافي من خلال مشاريع تجارية من الطراز القديم، وبوسعنا أن نرى مشاريعهم على طول شارع السوق المزدحم، والمعروف أيضاً باسم شانزيليزيه. وعندما سألت لماذا هذا الاسم قيل لي "كان يوجد هنا سابقاً مستشفى عسكري فرنسي متنقل حتى نهاية عام 2013، ومنه استُوحي هذا الاسم".

محل ابو الياس

دخلت محلاً لبيع الأغذية مثيرا &للاعجاب يديره بفخر خليل أبو اليابس من بلدة إنخل في محافظة درعا. ويعرض بعناية كل أنواع المكسرات والبذور والفواكه المجففة والحلويات والحبوب أمام الزبائن. وقد افتتح خليل أبو اليابس المحل بعد شهرين فقط من وصوله إلى الزعتري قبل ثلاث سنوات ونصف.

وفي الجانب المقابل من الشارع، سمح لي شاكر العمري، مع بعض التحفظ، بدخول محل الخياطة الذي يملكه، والذي سماه تيمّناً ببلدته "درعا البلد". في البداية وافق فقط على التقاط صور لمحله، وقال عابساً "لا أريد أن أظهر في الصحافة". ثم بدأنا ندردش حول العصفورين اللذين يزقزقان في قفص معلق بسقف المحل. وقال "يُطلق على هذه العصافير اسم عصافير الجنة". وأضاف، "كنت خياطاً معروفاً في درعا البلد قبل وصولي إلى المخيم منذ ثلاث سنوات واشتركت في تدريبات متقدمة منذ ذلك الوقت". وأشار إلى الشهادات المؤطّرة بالقماش على الحائط وقال "صورّيها".

ماكينة شاكر&

وفي نهاية المطاف وافق شاكر على التقاط صورة له وهو يجلس أمام ماكينة الخياطة، وشعرت بفخرٍ صحفي كوني اكتسبت ثقته. وقبل مغادرتي، طلب مني أن أكتب عنوان الموقع الإلكتروني لليونيسف وعنوان صفحتي على موقع تويتر، وقال "أريد أن أرى الصور بعد نشرها".

غادرت المكان وأنا محتارة لماذا يحدث كل هذا من جديد. ففي كل يوم يأتي واصلون جدد من الهاربين من الجحيم المستعر في سوريا المجاروة ويتوجهون إلى مخيم الأزرق الأحدث عهداً على الحدود الشرقية. وبعد مرور خمس سنوات على هذه الحرب، لا تبدو هناك نهاية في الأفق. فلماذا نسمح، ولماذا يسمح أي إنسان، لهذه الحرب أن تستمر؟

وإذ نغادر في السيارة منطلقين من مقر الأمم المتحدة في المخيم، رأيت أولاداً لا تزيد أعمارهم عن 12 أو 13 عاماً، وقد ركنوا دراجاتهم الهوائية على الجدار الخارجي للمبنى، جالسين في الظل، وكل منهم يحدّق في هاتفه الخلوي. وعلق سائق السيارة بالقول، "إنهم يحاولون الدخول إلى شبكة الاتصال اللاسلكي للمقر كي يتمكنوا من استخدام الإنترنت". فانتشار الإنترنت محدود في المخيم.

• فرح دخل الله هي المتحدثة الإقليمية لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا