عودة ابو ردينة، ترجمة ابتسام الحلبي

في تقرير نشرته نيويورك تايمز، يقرأ الناقد الفني جايسون فاراغو في معاني التسامح التي تكتنزها تحف المسيحيين الشرقيين، مشددَا على تاريخية الدور الفرنسي في حماية الأقلية المسيحية في الشرق.

خلف نوافذ جان نوفيل الشهيرة الواسعة المصممة لمقره بجانب نهر السين، قدّم معهد العالم العربي سلسلة من العروض الحديثة التي عمّقت فهم فرنسا للإسلام. من معرض "ألف ليلة وليلة" (2012) إلى "الحج إلى مكة" (2014) و"مستكشفو المحيط" (2016)، كشفت المعارض عن اتساع الثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وارتباطهما الحميم بالغرب طوال قرون.

ليس وحيدًا

إلا أن الإسلام ليس الدين الوحيد في العالم العربي. ففي الخريف الجاري، قام المعهد الذي يحتفل بذكرى تأسيسه الثلاثين هذا الشهر، بتوجيه انتباهه إلى دين آخر: "المسيحيون الشرقيون: 2000 عام من التاريخ"، وهذا معرض رائع وشامل، ومثير للدهشة أحيانًا، يستكشف ولادة المسيحية وانتشارها من موت المسيح إلى يومنا هذا.

وُصف معرض "المسيحيون الشرقيون" بأنّه الأكبر في أي مكان مخصص للدين في الشرق الأوسط، وتمّت استعارة عدد من أهمّ لوحاته والمخطوطات والمنسوجات والفسيفساء والعاجيات والأثواب الليتورجية من لبنان والأردن وإسرائيل وكردستان العراق، وجاء في وقت حسّاس وخطير بالنسبة إلى المسيحيين في الشرق الأوسط الذين واجهوا عنفًا مروعًا وحتى عبودية على يد تنظيم الدولة الإسلامية. وهو يدخل في نقاش مقلق في فرنسا، حيث استنكر السياسيون اليمينيون، على وجه الخصوص، محنة المسيحيين في الشرق الأوسط، وإن لم يكن دائمًا بدوافع إنسانية.

عنصر أساس

افتتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا المعرض إلى جانب نظيره اللبناني المسيحي الماروني ميشال عون. ولقي المعرض تغطية إعلامية واسعة، ليس من الإعلام المسيحي فحسب مثل صحيفة لا كروا، بل أيضًا من عدد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية السائدة.

على إحدى القنوات، قال وزير الثقافة الفرنسية السابق جاك لانغ الذي يشغل منصب المدير العام لمعهد العالم العربي إن المسيحية "عنصر أساس في العالم العربي"، محذّرًا من "حالة طارئة" للمسيحيين الشرقيين الذين كانوا يشكلون 20 في المئة من المنطقة قبل قرن من الزمن، بينما لا تتخطّى نسبتهم 4 في المئة الآن، وفقًا لمركز بحوث بيو. فهجرتهم المستمرة بسبب اضطهادهم تهدد تنوع العالم العربي وحيويته.

يبدأ المعرض بقطعة من الحرير الأحمر، يرجع تاريخها إلى نحو 800 ميلادي، تمّت استعارتها من الفاتيكان، وهي تحتوي على ورود رُسمت فيها مريم العذراء تجلس بينما يبشّرها الملاك جبرائيل بأخبار مهمة. ويأتي النسيج من سورية، وكما هو الحال مع الفسيفساء الأردنية والمنحوتة الغائرة اللبنانية المعروضة إلى جانبها، فهو يعرض زخارف هلنستية في خدمة ديانة جديدة، ولدت في القدس وسرعان ما تمّ تنصيرها.

أنشودة توبة

أما اللوحات الجدارية والأناجيل المكتوبة بخط اليد التي بهتت ألوانها فتثير حياة المسيحيين الأوائل، الذين واجهوا القمع المستمر وكثيرًا ما صلّوا في السر. لكن، في أوائل القرن الرابع، تحول الإمبراطور الروماني قسطنطين إلى المسيحية، وأصدر مرسوم ميلانو الذي ساهم في منح حرية دينية في جميع أنحاء العالم. 

في ظل حكمه، انتشرت الكنائس في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتشهد المباخر المزخرفة والشمعدانات والفسيفساء والكؤوس مع الصلبان الذهبية على الامتياز الجديد والأمن اللذين تمتع بهما المسيحيون.

صفحة من كتاب مسيحي مقدس تعود للقرن السابع عشر باللغتين السريانية والعربية (صورة من نيويورك تايمز

في القرنين الرابع والخامس، تشاجر المسيحيون حول المسائل اللاهوتية وانقسموا إلى طوائف متعدّدة. كما يشير عنوان المعرض ("المسيحيون الشرقيون"، وليس "المسيحية الشرقية")، فهو يعبّر عن ثقافات مختلفة، تتحدّث لغات عديدة، وتمارس مجموعة متنوعة من العقائد الدينية تكون على نزاع في بعض الأحيان. 

تظهر المخطوطات باللغة اليونانية أو العربية أو القبطية أو السريانية في معرض دائري رائع مجهز بمكبرات الصوت التي تبثّ تراتيل من جميع أنحاء المنطقة. وبعد أنشودة باللغة العربية لمريم العذراء، تبدأ امرأة بغناء ترنيمة رنّانة باللغة الأرمنية أنشودة توبة مصدرها الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. 

عاشوا أقلية

يتناول المعرض الحروب الصليبية بإيجاز من خلال آثارها الثقافية اللاحقة؛ فنرى كتاب العهد القديم باللغة العربية معقدًا كما القرآن، ومزهرية سورية من القرن الثالث عشر تظهر عليها مشاهد الرهبان المسيحيين داخل الديكور الإسلامي. ويولى المزيد من الاهتمام للعصر الحديث المبكر الذي شهد ظهور برجوازية مسيحية في بغداد ودمشق وغيرهما من المدن العربية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر.

يؤكد المعرض أن المسيحيين عاشوا بسلام باعتبارهم أقلية في الشرق الأوسط لما يقارب الألف عام، خلافًا للمناقشات الطويلة حول صراع الحضارات التي أطلقها كل من الدولة الإسلامية واليمين الأوروبي المتطرّف. العنف المتسارع في القرن العشرين له جذور سياسية، لا سيما في انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى والحركات القومية التي نشأت في أعقابها.

ويعتمد هذا المعرض على الفنانين المعاصرين لتوضيح هذه المشكلات الحديثة. فيقدم دور غيز، وهو فنان إسرائيلي من التراث اليهودي والمسيحي، أرشيفًا من صور ترحيل جدته من يافا في عام 1948. أما المصوّرة كاتارين كوبر فبيّنت الكنائس المدمرة في حلب.

دور تاريخي

شهدت الانتخابات الرئاسية هذا العام مناشدة المرشحين المهزومين من اليمين الفرنسي واليمين المتطرف للمسيحيين الشرقيين، وغالبًا ما كانوا في الخطاب نفسه يحطّون من قدر المسلمين في بلدهم. فرانسوا فيون، رئيس الوزراء السابق والمرشح الجمهوري، حضر قداسًا قبطيًا لعيد الفصح، وأعرب عن "مودة" للمسيحيين الشرقيين - بعد ساعات فقط من الاستنكار بأنّه في بلد علماني "لم نعد نقول عبارات الهوية، فرنسا، الوطن، الأرض الأم، الجذور، الثقافة". أما زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، فشددت على "الدور الاساس الذي تؤدّيه فرنسا في حماية المسيحيين الشرقيين" ووصفته بـ "الدور التاريخي".

تحفة زجاجية سورية من القرن الثالث عشر، مزينة بمشاهد من الحياة الرهبانية السائدة في الشرق حينها

وجّه خطاب ماكرون في معهد العالم العربي انتقادًا ضمنيًا لاستخدام لوبان السياسي محنة المسيحيين في الشرق الأوسط. قال: "في أي مكان تدافع فيه الأقليات عن إيمانها، يقف الفرنسيون إلى جانبها لأننا نؤمن بالتعددية". وهذه التعددية ميّزت العالم العربي قبل ولادة الإسلام كما يؤكد هذا المعرض الأساس.

إن أخذ هذه التعددية على محمل الجد يعني رفض الحملات الصليبية الجديدة للأصدقاء المزيفين للمسيحيين الشرقيين في الغرب، ورفض الرسوم الكاريكاتورية الطائفية لصالح المساواة العالمية وحرية الإنسان. ربما لا يؤثر معرض "المسيحيون الشرقيون" كثيرًا في مؤيدي أفكار لوبان في العالم، غير الشريفين وغير المصغين إلى المنطق تمامًا مثل الجهاديين الذين يدّعون معارضتهم، لكنّه يحمل رسالة للبقية منا: أخذ الماضي على محمل الجد بقدر الحاضر، وعدم السماح للمتطرفين بوضع شروط النقاش.