انتشرت في السنوات الأخيرة في العراق ظاهرة "الالحاد" خاصة بين الشباب، بسبب الفساد الحكومي كما يبرر البعض، وبسبب انتشار التكنولوجيا في كل مظاهر الحياة. في حين اعتبره آخرون أنه ليس "إلحادا حقيقياً" بل ردة فعل على الاحزاب السياسية الدينية.
عبد الجبار العتابي من بغداد: يكثر الحديث عن الالحاد في العراق، على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الجلسات الخاصة واحيانا في سيارات نقل الركاب حين يحتدم النقاش عن اوضاع البلد المزرية واشكال الفساد التي نخرته فلم تبق فيه من الخدمات ما يريح المواطن الاعتيادي وترضيه فيحيل البعض ذلك السوء الى رضا الله عنه او يعتبره امرا مكتوبا ومقسوما بقولهم (هذا ما كتبه الله علينا).
وتترامى الاحاديث لتصل الى ان اسهل الامور عند البعض ان يشتم الذات الالهية امام الاخرين الذين يكتفي البعض منهم بـ (استغفر الله)، بل انه من الممكن سماع حكايات غريبة جدا تدخل ضمنا في موضوع الالحاد والكفر، حتى ان جريدة (وول ستريت) الاميركية اشارت الى ان (نسبة الإلحاد في العراق هي 38%)، وهو رقم لم يتفق عليه العراقيون، فهناك من يزيده وهناك من ينقصه وينكره، فيما يرى آخرون ان ذلك جزء من "المؤامرة التي تحاك ضد الاسلام والمسلمين من الغرب واميركا تحديدا".
تتعدد وجهات النظر في الالحاد، فهناك من يرى مثلا انه ظاهرة دخيلة على المجتمع العراقي وانها غير حقيقية، وانها موقتة بسبب الجهل واللاوعي والفقر والفساد والقتل والتهجير والسلطة الحاكمة غير العادلة، وهناك من يرى ان هنالك (ثقافة إلحاد) كرد فعل على فساد الأحزاب الاسلامية، اما نسبة الإلحاد فهي قليلة، وهناك من يرى ان لا الحاد حقيقي بل هناك ظاهرة الانسان (اللاديني) الذي يؤمن بوجود الله لكنه لا يؤمن بالاديان بعد ان فرقت الاديان بين البشر واندلعت الحروب بسببها، فيما كان الباحث الاسلامي والمفكر السياسي غالب الشابندر قد حذر من موجة الحاد ستعم العراق بسبب ممارسات احزاب الإسلام السياسي في السلطة.
وقال الشابندر في حديث صحافي: "ان العراق يعد أول دولة عربية حاليا من حيث نسبة الملحدين بسبب الاحباط وممارسات احزاب الاسلام السياسي طيلة السنوات الماضية"، واكد ان اغلب المنتمين للاحزاب الاسلامية السياسية لا يصافحون المرأة في العلن ويصافحونها في السر وسرقوا المال العام بإسم الدين ودمروا البلاد واسسوا امبراطوريات مالية باسم الدين والمذهب، موضحا ان شعارات الاسلام السياسي عبارة عن اكذوبة كبرى في احترام الانسان والعفو والتسامح ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة. بل اصبح حكم الكافر العادل افضل من حكم الاحزاب الاسلامية في العراق.
لكن من يتعمق في البحث سيشعر بالذهول للاعداد الكثيرة التي (تدعي) الالحاد أو تتظاهر به، كما يقال، ويجد ان الامر له اساسات كثيرة من الصحة وان اي سؤال حول وجود الحاد في العراق تكون اجابته ليست مستغربة وتحكي عن العديد من الحقائق بين اوساط الشباب خاصة حتى من الذين يدعون التدين، ولكن هناك الكثيرين يصرون على انهم (ملحدون) عنادا وضد ما يحدث في الواقع العراقي المزري الذي اثخنه الاسلام السياسي بالجراح حتى ما عاد امام الانسان العراقي الا ان يجزع جزعه هذا لا يشفي غليله الا بالقسوة المتناهية مثل الذي يمسك بيده جمرة، بعد ان تعبوا من رفع الدعاء الى الله فلم يستجب لهم وقد اصبح الموت مجانيا وبشعا والخراب ينهش جسد البلد ومن السهل ان تسمع من احد قوله (ألم نكسر خاطر الله؟) وضرب احدهم مثلا حول ما يحدث من (تظاهر) بالالحاد ببعض مدمني الخمور الذين يسكرون فيرمون انفسهم في اقرب مستنقع ضحل وحينما يفيقون ينكرون ذلك ويظهرون بالمظهر الانيق المهذب، مشددا على ان العراقي لا يمكنه الا ان يؤمن بالله ولكن القسوة في حياته جعلته يتصرف بسخط على نفسه اولا وعلى كل شيء حوله، كما وجدنا ان البعض لا يعلن عن الحاده او كفره صراحة لانه يخشى على نفسه واهله من القتل بقدر ما يتداوله ويشجع عليه في السر وفي مواقع التواصل الاجتماعي حتى تكونت صداقات عديدة من الجنسين.
انعدام الثقة بالدين
يؤكد حمدي حامد، وهو كاتب واعلامي، انه ليس ملحدا بل لادينيا، وقد بدأ اعلانه عن هذا منذ خمس سنوات كرد فعل على سلوكيات الاسلام السياسي، وقال: "هناك اسباب عديدة عملت على انضاج هذه الظاهرة وانتشارها في العراق.. فلو تعمقنا في الاحداث التي مرت على العراق نجد ان لها دورا كبيرا في ذلك.. حيث اثرت الاحداث على مختلف المجالات الحياتية في المجتمع وتركت اثارا نفسية عند اغلب الشباب وغير الشباب في العراق.
يضيف لـ"إيلاف": أنا لست ملحداً بل أؤمن بالله الخالق ولكنني لا انتمي الى اي دين، وحسب وجهة نظري كوني شخصا (لادينيا) اؤكد انه ليس هناك مؤامرة خارجية على الدين الاسلامي تحديدا في انتشار هذه الظاهرة، بل ان اندماج الدين بالسياسة كان العامل الرئيسي لزعزعة الايمان الديني عند الشباب وغير الشباب وعدم احترامهم لكل المعتقدات الدينية التي نشأوا عليها وتعلموها من ابائهم، فلقد انهارت امامهم حين اصبح رجل الدين رجل سياسة يتعامل مع الاخرين بعيدا عن اخلاقيات الدين وذلك ناجم عن مقتضيات العمل السياسي ومتطلباته التي يفرض على رجل الدين السياسي ان يكون غير اخلاقي كون السياسة تتطلب امورا غير اخلاقية منها الكذب والخداع، والتي تتنافى مع سمات الدين وبالتالي انهارت المؤسسة الدينية بكل مفاصلها، وانعدمت ثقة الانسان العراقي برجل الدين وبالدين ذاته بعد ان تلطخت يد رجل الدين بالمال الحرام وسرقة حقوق الشعب، واتخاذ الدين غطاء لارتكاب جرائم القتل الطائفي".
عدم القناعة بالأديان
وتؤكد نور شكرلي عدم قناعتها بالاديان وهو ما جعلها تميل نحو الالحاد، وقالت: "يعتبر البعض أن انتشار موضوع الالحاد هو مؤامرة ضد المسلمين عامة والعرب خاصة اعتقادا منهم أن الغرب الكافر لاهٍ عن الاختراعات وتارك عجلة التطور و ليس لديه شغل شاغل سوى السهر لحياكة المؤامرات ضد العرب".
وأكدت أن هناك العديد من الأسباب للالحاد منها أسباب شخصية، كعدم القناعة بالاديان أو التهرب من الواجبات الدينية وثقلها أو كنوع من ركوب الموجة ويبقى البعض الآخر مختلفا من خلال قناعاته وبحثه الدؤوب عن الحقيقة واستمراره بالقراءة ومعرفة اصل الديانات السماوية (البشرية)، واستمراره على موقفه من أجل الوصول إلى شيء من الحقيقة يتفق مع المنطق والعلم ويبعد الخرافة التي يعتبر الدين الحاضن الأول لها من بعد الجهل والتخلف".
وتابعت: "من أجل القضاء على الأغبياء الذين لطالما استغلوا ويستغلون البسطاء من عامة الناس من اجل الوصول إلى غاياتهم الدنيئة من سلطة ومنصب وجاه على مر العصور وحتى الان وكان الدين هو رداء العهر لهم ولخشيتهم من تزعزع كراسيهم ومنابرهم في ظل الانفتاح ومحاربة الجهل من خلال القلم اولا ووسائل التواصل الاجتماعي ثانيا فقد عادوا إلى أصولهم الهمجية من تهديد وقتل وأساليب دنيئة تظهر حقيقة معتقداتهم الصحراوية التي لا تتناسب مع متطلبات العصر فهم طالما تحدثوا باسم الرب"، على حد تعبيرها.
ظاهرة موجودة
تؤكد نادين زنكنه أن هناك فئات مختلفة من التوجهات الالحادية واللادينية.
وتقول لـ"إيلاف": "فكرة الإلحاد ليست جديدة بل موجودة منذ أكثر من نصف قرن ولكنها لم تكن ظاهرة كما الآن بسبب التعتيم الإعلامي عليه، في السنوات الاخيرة ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تسليط الضوء عليها حيث أن مواقع التواصل كانت محظورة سابقا كما القنوات الفضائية، لهذا كانت الأفكار الالحادية تعيش في الظل، فساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تسليط الضوء على فكرة الإلحاد وتكوين مجموعات الملحدين واعطائهم فسحة واسعة من الحرية لاشهار الحادهم أثناء الحصار الاقتصادي وحظر السفر على العراقيين".
واضافت: "بعد سقوط نظام الطاغية سنه ٢٠٠٣ وحكم الأحزاب الصارمة الدينية التي فرضت أحكامها وقوانينها الصارمة على الشعب كفرض الحجاب على المرأة والتصفية الجسدية للشباب والنساء الذين يعارضون أحكامهم أصبح هناك حقد ورد فعل على سياسة تلك الأحزاب كما أن الفساد المتفشي في الحكومة بين رجال الدين والمسؤولين عن الأحزاب الدينية دفعت بالمتضررين والشرفاء من الشعب إلى محاربة الدين ورجاله عن طريق مواقع التواصل".
وتابعت: "ما تعرض له العراقيون من ظلم وقهر وابادة جعلتهم في صحوة من غيبوبتهم وايمانهم بالغيبيات، هناك فئات مختلفة من التوجهات الالحادية واللادينية،هناك فئات توجهت إلى الإلحاد عن دراية وعلم وبحث في هذا المجال، وهناك فئات تحولت إلى الإلحاد اثر صدمة نفسية او ظلم كبير تعرضت له من قبل المتسلطين عليها، وبينهما فئة لا أدري احيانا هم ملحدون واحيانا هم مؤمنون بالأديان، كما يقال بلهجتنا (مضيع المشيتين).
التمرد
من جانبه، يؤكد كريم عبد الرزاق، كاتب وباحث في هذا المجال، أنّ ظهور داعش جعل الانسان العراقي يتمسك بشدة بالالحاد والارتداد عن الدين، وقال: "اصبح الانسان العراقي ينظر الى الدين برؤية اعمق ويدقق بكل صغيرة وكبيرة ويتناقش ويبحث عن الحقائق ويفرز المتناقضات والخزعبلات المعششة في الدين والتي كان يعتبرها اشياء مقدسة لا يجوز المساس بها او التقرب منها او حتى النقاش فيها".
وأضاف: "لولا وجود مواقع التواصل الاجتماعي تحديدا فايسبوك لما تمكنت هذه الظاهرة من ان تأخذ مساحتها الواسعة في الانتشار وانغراسها في اعماق عقول وقلوب الشباب بشكل عام كونهم الاكثر استيعابا وتقبلا للنقاشات في هذه المواضيع الخطيرة، اضف الى ذلك غياب الرقابة الحكومية والعائلية على افراد المجتمع مما ساهم بشكل اكبر في خلق بيئة مناسبة لنمو ظاهرة الالحاد وخروج البعض عن دينه وعدم اعترافه باي دين ونكران الانبياء وغيرها،وايضا ابتعاد المؤسسة الدينية عن تكريس جهودها لانشاء برامج توعوية وتثقيفية تكون رادعا لكل ما يطرح من مواضيع حساسة تخص الدين الاسلامي وتكذيب او تبرير ما يتم تقديمة من البعض عن امور تحمل نوعا من الاقناع في ما يخص الانبياء ودينهم، بل اكتفت المؤسسة الدينية بإنشاء فضائيات مكرسة في امور دينية طائفية قائمة عل التناحر وتعميق الطائفية وهذا ما جعل النفور من الدين الإسلامي اكثر واشد عند الشباب العراقي بنسبه كبيرة".
من جهته أكد الكاتب والاعلامي مهدي العامري، أن فشل حكم أحزاب الإسلام السياسي في العراق هو السبب في انتشار الالحاد بين الشباب، وقال: "لا يكاد يمر يوم من دون أن تشير مواقع التواصل الاجتماعي إلى تزايد ظاهرة الإلحاد خصوصا بين الشباب في العراق. فهناك شريحة كبيرة من الشباب العراقي تحولت إلى الإلحاد خلال الأعوام الأخيرة ويمكن القول انه لا يخلو بيت في العراق من فرد في العائلة يثير قضايا دينية بشكل غريب وغير مطروق سابقاً مما يوصم بأنه مشكك بثوابت الدين او متحرش بالذات الإلهية وصفاتها أو بباقي الأعراف الدينية والتابوات المتوارثة والمستحدثة".
واضاف: "الإلحاد واللادينية واللاادرية بدأت تنتشر بين الشباب مع فشل حكم أحزاب الإسلام السياسي في العراق، وعززت منصات التواصل الاجتماعي والمنتديات الثقافية ظاهرة الإلحاد بشكل لافت".
وتابع: "من الصعب الحصول على نسب الإلحاد واللادينية في العراق لأسباب تتعلق بهدر دم الملحد وأخرى معروفة، فان الحقيقة التي يتفق عليها الجميع بمن فيهم رجال الدين، هي أنّ الإلحاد واللادينية قد تناميا بعد عام (2010) بين أوساط الشباب في العراق وصارا يشكلان ظاهرة ناجمة عن ردة فعل نفسية شاعت بين الشباب نتيجة ضياع وإحباط وخيبات وفقدان المعنى من الحياة. ومع أنها تشكل إدانة لأنظمة سياسية فاشلة وخطب دينية متخلفة واحتجاجات ضد واقع لا يؤمّن حاجاتهم الحياتية والفكرية، فإنها في جوهرها ظاهرة غير صحية لأنها في غالبها فورة و(موضة وتباهٍ) تشغل الشباب فكريا عن التغيير المطلوب إنسانيا.
غيبوبة العقل الديني
إلى ذلك، يؤكد الشيخ غيث التميمي أن غيبوبة العقل الديني في ثالوث الطقوس والخرافة والتطرف هو احد اهم الاسباب وراء انتشار الالحاد.
يقول لـ"إيلاف": "هناك العديد من الاسباب وراء تزايد الالحاد في العراق من اهمها: اولا ثورة المعلومات المتوافرة في الانترنت، وثانيا: حرية التعبير التي وفرتها السوشل ميديا، وثالثا: غيبوبة العقل الديني في ثالوث الطقوس والخرافة والتطرف.
واضاف: "هناك اسباب اخرى مثل عدم تصدي العلماء والمؤسسات الدينية لمعالجة الاشكالات التي تواجه الموروث الديني، وكذلك جرائم الجماعات "الجهادية" والميليشيات التي تستند لنصوص الدين والفقه، كما ان فساد وفشل الاحزاب الدينية في الحكم هما من الاسباب المهمة، فضلا عن غياب مرجعيات رصينة علميا واكاديميا ودينيا قادرة على استيعاب ازمات الشباب وتساؤلاتهم".
لقاء مع "ملحد"
دلنا أحدهم الى شخص يدّعي أنه ملحد ولا يؤمن اطلاقا بالله واليوم الاخر ولا بالانبياء والرسل، وفي مقهى شعبي انزوى مع مراسل "إيلاف" في مكان بعيد عن الآخرين، وبدأ الحديث عن الحاده الذي بدأ قبل سنوات وعن شكوكه بوجود الخالق وعن تأكده من ذلك عبر حوادث الموت التي مر بها العراق، ووسط هذا الحديث دخل أحد المتسولين ونادى باعلى صوته (افلح من صلى على محمد وال محمد)، فما كان من جليسي الا ان قال مرددا بصوت مسموع (اللهم صل على محمد وآل محمد).
التعليقات