ياسر عبد العزيز
قبل شهر واحد من اليوم، لم يكن عنوان هذا المقال يعني لأي قارئ سوى اسم فيلم من كلاسيكيات السينما المصرية، أخرجه المخرج المهم عاطف سالم في عام 1959؛ إذ بقي النيل دوماً بمنأى عن ألفاظ الصراع والتنازع والعنف، بل تكرس في الوعي والوجدان الجمعي لأبناء القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، بوصفه مصدراً للخصب والنماء والخير والصفاء والطمأنينة والسلام.
الآن تتغير الأوضاع، ويصبح عنوان هذا المقال قراءة لحالة صراعية تتفاقم بين دول منابع النيل السبع ودولتي المصب مصر والسودان، وهي حالة لا تظهر لها حلول توافقية ناجعة في الأفق القريب، بل إن ما يظهر من تفاعلاتها ينذر بمزيد من التأزم والانسداد.
لم يكن ما قاله المؤرخ العظيم هيرودوت من أن 'مصر هبة النيل' نوعاً من المزايدة أو المبالغة أو الإفراط في استخدام المجاز، بل هو حقيقة وواقع ووصف محكم لطبيعة العلاقة بين البلد وأحد أهم مصادر حياة أبنائه ووجودهم، وتشخيص دقيق للحالة التي شكلها النيل في وجدان المصريين، والخصائص التي ميز بها أبناء البلاد، والسمات التي استمدوها من جريانه الهادئ المنتظم وقدرته المستديمة على العطاء دون أي شكوى أو انقطاع.
فالنيل يزود مصر بنحو 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، تمثل ما يزيد على 95 في المئة من استخداماتها المائية، وبذلك فإنه يصبح المصدر الرئيس، ويكاد يكون الأوحد، لمياه الشرب والري. وفضلاً عن ذلك فالنيل هو أحد المعالم السياحية الفارقة في البلد والمنطقة والقارة، وبالإضافة إلى دوره في عملية النقل النهري، فقد ظل أيقونه ارتبطت بالوعي والوجدان الوطني منذ قديم الأزل، بل ارتبط بمقدسات دينية في بعض الأزمنه، كما بقي معيناً لا ينضب لقصص وأحداث تتعلق بالبناء القيمي للمصريين وانتمائهم الوطني ورمزاً لتسامحهم وقدرتهم على العطاء.
ولذلك، فلم يكن غريباً أن يحرص محمد علي مؤسس مصر الحديثة على ضم السودان وإرسال حملات عسكرية وعلمية لتأمين منابع النيل، وهي الحملات التي حققت جزءاً كبيراً من أهدافها في أعوام 1839، و1840، و1842. لقد وجد محمد علي، كرجل دولة وصاحب رؤية، أن جزءاً معتبراً من موارد مشروعه التحديثي والتنموي يعتمد على توسيع الزراعة وزيادة عوائدها، ولذلك فلم يكن أمامه فرصة للمغامرة ببناء استراتيجيات توسعية اعتماداً على مورد يرى مصبه لكن لا يعرف منابعه ولا يستطيع السيطرة عليها أو مواجهة تحكم الآخرين بها.
وفي العهد الناصري، استثمرت الدولة المصرية كثيراً في بناء وتطوير علاقاتها بالدول الإفريقية وعلى رأسها دول منابع النيل، وتكونت في وزارتي الخارجية والري المصريتين نخبة وطنية تكنوقراطية قادرة على تشخيص أوضاع دول القارة والحوض تشخيصاً دقيقاً وبناء علاقات تعاونية قوية ومستديمة معها، بل إن القاهرة في عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر أسهمت في تحرير عدد لا يستهان به من بلدان القارة، وزودت بعض تلك البلدان بالمال والسلاح والدعم السياسي والمعنوي حتى استطاعت أن تتخلص من الاستعمار، وتبدأ رحلة بناء مقدراتها الوطنية في عهود الاستقلال.
كانت دول القارة الإفريقية، ومن بينها معظم دول حوض نهر النيل، ترى في مصر شقيقة كبرى، وتقدر تضحياتها وجهودها المخلصة في دعمها وتسهيل سبل حصولها على استقلالها الوطني، وتثمن استمرارها في تقديم بعض المساعدات الفنية والعينية، واستقبالها لبعض الطلاب للدراسة في جامعة الأزهر أو الجامعات المدنية الأخرى، وأدوارها الفاعلة من خلال وجودها في منظمات دولية مهمة، في دعم مواقف دول القارة والتعبير عن آمالها في الاستقلال والتحرر من التبعية والمضي قدماً في خطط تنموية تسد الفجوة الهائلة التي تفصلها عن غيرها من دول العالم.
ولذلك، فلم تظهر مطالبات تتعلق بالأوضاع التي رتبها الاستعمار في شأن توزيع حصص مياه النيل، إلا بعد رحيل الزعيم جمال عبدالناصر.
فعلى الرغم من أن أثيوبيا، وهي أهم دول منابع النيل، تتمتع بوجود عدد كبير من أحواض الأنهار بها، وتستقبل مليارات من الأمتار المكعبة من المياه على هضبتها على مدار السنة، ولا تعتمد على مياه النيل إلا لسد نحو 5% من احتياجاتها، وكذلك بقية دول المنابع، فإنها رأت أن توزيع مياه النيل 'ليس عادلاً'.
فحسب اتفاقية 1929 التي عقدت برعاية بريطانيا كدولة استعمار، والتي تم تثبيت معظم أركانها لاحقاً في عام 1959، فإن حصة مصر من مياه النيل تعادل 55.5 مليار متر مكعب، فيما تبلغ حصة السودان 18 مليار متر مكعب، بما يشكل نحو 87% من إيرادات النهر التي تصل إلى المصب، وبالتالي فإن الدول السبع الأخرى، التي ينبع منها النهر، لا يتوافر لها سوى 13% من إجمالي تلك الإيرادات.
وترجع أسباب ذلك التقسيم إلى أن مصر لا تملك مصدراً مائياً آخر بخلاف نهر النيل، ولأن الدول الثماني الأخرى تمتلك موارد مائية أضخم منه كثيراً ويمكنها الاعتماد عليها في استخداماتها الحيوية، وقد تحول هذا التقسيم إلى حق مكتسب بالنسبة إلى دولتي المصب، خصوصاً أن القانون الدولي يميل إلى عدم المس بالحصص المائية التي قننتها تعاقدات سابقة وبنيت عليها استخدامات مستقرة للسكان.
وفي مطلع السبعينيات الفائتة، سعت أثيوبيا إلى بناء سدود على النهر يمكن أن تؤثر في حصة مصر، فرد الرئيس السادات آنذاك رداً حاسماً اُعتبر تهديداً باستخدام القوة، لكن منذ ذلك الحين انصرفت مصر عن إفريقيا، ولم تعد إحدى دوائر اهتمامها الاستراتيجي، وتقلصت أشكال التعاون والتبادل التجاري والتفاهم السياسي إلى أقصى الحدود، بل إن الرئيس حسني مبارك أحجم عن حضور القمم الإفريقية منذ تعرضه لمحاولة اغتيال فاشلة في أثيوبيا عام 1995.
في منتصف شهر أبريل الماضي، فشل اجتماع لدول الحوض في الوصول إلى اتفاق بشأن تقاسم الحصص وبنود أخرى في شرم الشيخ، ولذلك فقد وقعت أربع من دول الحوض اتفاقا إطاريا في عنتيبي منتصف الشهر الجاري، يمس حصة مصر، وينزع حقها في الموافقة على المشروعات التي قد تؤثر في حصتها على طول مجرى النهر. وسرعان ما انضمت الدولة الخامسة للاتفاق، ويبدو أن الدولتين الباقيتين على وشك التوقيع، لتصبح دولتا المصب مصر والسودان في مواجهة دول المنابع السبع الأخرى، ولتصبح اتفاقيتا 1929 و1959، بما تؤمنانه لمصر من مياه، لا تكفي أصلا لسد احتياجاتها، في مهب الريح.
حتى هذه اللحظة لا تهول مصر مما حدث، وتعتقد الدولة المصرية أنه بالإمكان احتواء الأمر والعودة إلى التفاوض، خصوصا أن مسؤوليين كينيين وأوغنديين في طريقهم إلى القاهرة هذا الأسبوع، لكن خبراء مستقلين يجزمون أنه من الصعب عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، خصوصا أن ثمة تقارير غير مؤكدة عن أصابع أجنبية تتدخل من أجل الضغط على مصر باستخدام ورقة النيل.
لا يبدو أن دول الحوض مرنة إزاء التفاهمات التي يمكن طرحها على قاعدة إبقاء الحصص على ما هي عليه، خصوصاً بعدما أوضح رئيس الوزراء الأثيوبي ميليس زيناوي أن تلك الأفكار تتعلق بـ'عهد مضى'، ولذلك فإن مصر أمامها ثلاث وسائل أساسية؛ إحداها تتمثل في الإغداق بالمساعدات المالية والفنية في مقابل عدم تغيير الأوضاع الراهنة، وثانيتها تتعلق بتكوين رأي عام دولي وقانوني ملزم لا يعترف بالاتفاقية الأخيرة وما تمخض عنها، وأخيراً التلويح بالقوة الصلبة أو التهديد باستخدامها أو استخدامها فعلاً.
وفي كل الأحوال، فإن النيل الذي كان مرادفاً دائماً للخير والخصب والطمأنينة والسلام وملهما للشعراء والفنانين، بات موئلاً للصراع ومصدراً للشقاق وسبباً محتملاً للحرب.
التعليقات