"أنا لا أرٌض ولا سكٌن"

سمير عطا الله


ُيطرح على الناس أحياًنا غير محق، أو غير معقول، كمثل: ما كتابك المفضل؟ أو قصيدتك المفضلة؟ أو فيلمك المفضل أو أغنيتك المفضلة؟ لا يمكن حصر الفنون الكبرى في حياة الإنسان. وكلما فكر في اختيار كتاب مفضل، أو كاتب مفضل، وجد نفسه تائًها في بحر من الكتب والكّتاب. أو في بحر من القصائد. وكنُت إذا حوصرت، أطلب السماح بأغنيتين: «إنت عمري» لأم كلثوم، و«يا عصفورة الشجن» لفيروز.

قرأت مؤخًرا في ساحات «الإنترنت» أن «يا عصفورة الشجن» واحدة من بضع قصائد اشتراها عاصي الرحباني من رجل دين يريد أن يظل مجهولاً، بمبلغ 25 ليرة لبنانية، أو 10 دولارات بمستوى تلك الأيام.

وشعرت بخيبة. لماذا خدعنا «الأخوان رحباني» ولم يكشفا الحقيقة. وعدت إلى جميع المراجع الممكنة، فوجدت أن «يا عصفورة الشجن» كتبها منصور قبل أن يبدأ هو وشقيقه، بتوقيع كل عمل باسميهما مًعا، لحًنا وتأليًفا ومسرًحا.

وبعد وفاة عاصي، ظلمت الناس منصور ظلًما شديًدا، إذ راحت تقول إن عاصي كان كل شيء، الشعر والموسيقى، وكنت ألح على منصور لمعرفة شيء من الحقيقة، فلا يغِّير جوابه: «أنا وعاصي». وكان عندما يذكر عاصي، أحياًنا يبكي مثل طفل. غير أن شقيقته أسّرت لي مرة أن الشعر هو في الأغلب لمنصور. وحتى عاصي نفسه، قال إن الأعمال الشعرية الكبرى، مثل «راجعون» هي لمنصور.

عدت إلى القصائد التي وقعها منصور وحده، مثل «لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب»، وإلى المغاني الشعرية الأخرى، ثم مرات عدة، إلى «يا عصفورة الشجن». ورأيت كلمات منصور وروحه وإيقاعه في كل سطر. وأوزانه الحقيقية وفراشاته الملونة وهمساته. أرجو أن تقرأوا معي هذا البخور:
أنا يا عصفورة الشجن - مثل عينيك بلا وطن
بي كما بالطفل تسرقه - أول الليل يد الوسن
واغتراب بي وبي فرٌح - كارتحال البحر بالسفن
أنا لا أرٌضولا سكٌن - أنا عيناك هما سكني

راجع من صوب أغنية - يا زماًنا ضاع في الزمن
صوتها يبكي فأحمله - بين زهر الصمت والوهن
من حدود الأمس يا حلًما - زارني طيًرا على غصن
أُّي وهٍم أنت عشُت به - كنَت في الباِل ولم تكن

أما كان الشيخ علي بدر الدين هو حًقا مؤلف هذا الشعر، كما قيل؟ فيا لها من خدعة جميلة.