عادل درويش

 «صدمة» و«زلزال».. صاحت نشرات الأخبار: دونالد ترامب الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة.
تكرار لرد فعل المؤسسة الليبرالية لتصويت بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي (أغلبية 17 مليونًا و400 ألف صوت مقابل 16 مليونًا للبقاء). كانت بداية ثورة البسطاء على The Establishment المؤسسة الحاكمة في الديمقراطيات الغربية. زلزال للتوازن الذي تروجه الشبكات التلفزيونية الليبرالية أسيرة group think التفكير الجماعي لقبيلة الصحافة التي يديرها مثقفو الشمبانيا الاشتراكيون خريجو المدارس الخاصة، يخلقون لأنفسهم فقاعة، وبداخلها يستنتجون سيناريو مسار الأحداث، ودليلهم وكالات استطلاع رأي يديرها زملاء الدراسة المعزولون عن الناس البسطاء الذين لا يشتركون أصلاً في استطلاعات الرأي.
أدق وأحدث برامج الكومبيوترات ستخرج بنتيجة تعتمد الفرضيات التي دخلتها أصلاً.
المؤسسات الصحافية كالـ«بي بي سي»، و«سي إن إن»، و«سي بي إس»، و«واشنطن بوست» و«غارديان» و«نيويورك تايمز» اخترعت في 2011 عالمًا افتراضيًا سمّوه خطأً «الربيع العربي»، كتكرار لـ«ربيع براغ».
وعندما تناقضت النتائج مع عالمهم الافتراضي اختاروا الحقائق بانتقائية مزيفة فضللوا مشاهديهم معمِّقين الفجوة بين شمال المتوسط وجنوبه.
بعد أربع سنوات اعتمدوا استطلاعات رأي خاطئة لبرلمان معلق في وستمنستر، ثم كرروا الخطأ نفسه بعد عام في الاستفتاء على الاتحاد الأوروبي، وجاء الفارق مليونًا و400 ألف صوت، ثم استمروا في ممارسة خداع الذات والمشاهدين والقرّاء في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ولا يقتصر سوء الفهم هذا - يعود لعدم الدقة بسبب اعتقال المهنة في سجن التفكير الجماعي - على الغرب، بل كانت الصحافة العربية أسوأ، حيث شاركت في ما يمكن أن نسميه اغتيال معنوي لشخصية ترامب نقلاً عن صحافة الغرب (لم تُجرِ صحيفة عربية أو في بلد إسلامي مقابلة واحدة مع ترامب أو تتحقق من مواقفه تجاه المسلمين). لو وقفت الصحافة على الحياد، بدلاً من الاستهانة بذكاء الناس العاديين لربما اختلفت نتائج الانتخابات الأميركية.
سأستشهد بأربع ملاحظات من الـ«فيسبوك».
مذيع بريطاني ليبرالي يساري تقاعد من الـ«بي بي سي» كتب عن استغرابه في العاصمة النيجرية من شابين مغتبطين بفوز ترامب برئاسة أميركا. وضع علامة التنهد، وقال ما معناه: «الحالة ميؤوس منها». لاحظ الصورة النمطية عن الأفارقة في مخيلة صحافي بريطاني: الصحافة التي ينتمي إليها الصحافي التقدمي رسمت شخصية ترامب كعنصري يريد منع المهاجرين. حضرة الصحافي لم يسأل النيجريين لماذا رحَّبا بانتخاب ترامب، لكنه قرر نيابة عنهما أن أي شخص غير أبيض لا بد أن يصوِّت ضد ترامب. أي أن الأفريقي الأسود لا يحق له أن يفكر كالرجل الأبيض في أولويات أخرى، كالاقتصاد وتجارة بلاده مع أميركا مثلاً.
الثانية أستاذة صحافة في جامعة كولومبيا «يئست» من انخفاض وعي سائق التاكسي المهاجر من أميركا اللاتينية، لأنه صوَّت لترامب، الذي يريد بناء جدار لمنع مهاجرين أمثاله من دخول أميركا. الدكتورة رأت ضرورة تصويت المهاجر ضد ترامب، ولا يحق له أن يفكر في أولويات أخرى، كتخفيض سعر البنزين. فات أستاذة الصحافة أن ترامب حصل على 29 في المائة من الصوت اللاتيني، وهي أعلى من التي حصل عليها ميت رومني (27 في المائة من أصوات المهاجرين) المرشح المنافس لباراك أوباما في انتخابات 2012، رغم أنه لم يرفع شعار الحد من مهاجري أميركا اللاتينية، بينما حصلت هيلاري كلينتون على أقل من 59 في المائة من أصواتهم (أوباما حصل على 71 في المائة في 2012). أي أن تصويت المهاجرين لم يكن للأسباب التي روَّجت لها الصحافة الليبرالية.
الثالثة مصريون جامعيون كتبوا: «انتخاب ترامب يعني أن الأميركيين بالفعل يكرهون المسلمين».
المسلمون كقضية لم يكن لهم أي ذكر في أولويات المصوتين لترامب وفق استطلاعات الرأي؛ فكأي مجتمع ديمقراطي كانت الأولويات الاقتصاد، والضرائب، والبطالة، وإغلاق المصانع بسبب العولمة، والجريمة والخدمات الصحية والهجرة قبل وجود المسلمين.
النموذج الرابع أكاديمية لبنانية في جامعة بريطانية قالت «انتخبت أميركا من يعتصر (...)» (كلمة غير لائقة عن جسم المرأة)، وناقضت تحليلات مسؤولية اليسار الليبرالي عن تضليل الرأي العام، قائلة: «هل كان الليبراليون وراء انتخاب الإيرانيين لأحمدي نجاد؟».
فات الأكاديمية أن 42 في المائة من النساء (54 في المائة من النساء البيض) صوتن لترامب (الذي صوَّرته الصحافة ذئبًا لا يُؤتمن على عفة امرأة)، بينما صوتت 54 في المائة منهن لهيلاري (مقابل 71 في المائة لأوباما في 2012).
وهل في الجمهورية الإسلامية أو بلد بنظام مشابه رأي عام يتأثر بصحافة حرة (لا وجود لها في بلدان لا تعترف ثقافاتها بحرية الفرد في الاختيار، سياسيًا وثقافيًا، واجتماعيًا، وعقائديًا)؟
أربعة نماذج لذهنية الشرائح العليا المثقفة شرقًا وغربًا.
نحن كصحافيين مسؤولون عن تضليل هذه الشرائح بدلاً من البحث عن الحقائق المجردة، وعن الوقائع والأدلة، في مهنة يفترض أن تكون ضوءًا يُسلَّط على المؤسسات والساسة كخدم للشعب الذي تمولهم ضرائبه، ويكون سعينا كصحافيين نحو العدالة بمفهومها الشامل.
للأسف وقعنا أسرى التفكير الجماعي، وأصبحنا جزءًا من ESTABLISHMENT المؤسسة القائمة التي خذلت المواطن العادي في آماله وتطلعاته، وبالتالي فقد الثقة بها وبنا كصحافيين. المواطن يكره نفاق الساسة؛ ينفقون ضرائبه في خداعه لتبرير سياسة تُناقِض ما انتخبهم من أجل تنفيذه.
الصحافة تركّز على تسجيل صوتي لنكات خليعة أطلقها الشاب ترامب في غرفة تغيير الملابس الرياضية، بدلاً من كشف تحالف الساسة وراء ظهر الناخب مع احتكارات كبرى زادته فقرًا، ومع مستثمرين وبنوك تمص دماءه. كصحافيين خذلنا المواطن العادي بدلاً من أن نكون عينيه وأذنيه على بؤر الفساد.
جاء ترامب كفارس من صحراء خارج المؤسسة، لم يكن جنرالاً في الجيش أو سياسيًا منتخبًا في الكونغرس. أحيا في ذاكرة المواطن الحلم الأميركي بمعناه الاقتصادي العملي: الاستثمار والعمل الشاق للتحول من فلاح يعرق في الأرض إلى صاحب مزرعة، وليس الحلم بمعناه الآيديولوجي العاطفي بشعارات انتخاب أول أسود رئيسًا، بينما ملايين السود تحت إدارته ينتظرون في طابور توزيع الطعام الخيري، ويراهم البوليس العنصري هدفًا للرصاص.
معسكر ترامب توقع النجاح بروح انتصار الناخب البريطاني في معركة استفتاء الاتحاد الأوروبي، وبالروح نفسها ستقع أحجار الدومينو، بثورات انتخابية مقبلة في النمسا، وإيطاليا، وهولندا، وفرنسا، لتقوّض الفيدرالية الأوروبية، ومعها تحالف المؤسسة السياسية الفاسدة مع الاحتكارات واستثمارات مصاصي الدماء.
الصحافة العالمية أخطأت بتسمية انتفاضات شمال أفريقيا والمشرق «الربيع العربي»، وأخطأت بعدم تسمية ما يحدث الآن في أميركا وأوروبا «الربيع الغربي».