علي الخشيبان

 ليتحمل مني القارئ الكريم هذا المدخل كي اشرح فكرتي حول الأزمة التي نتدوالها حول كيفية فهمنا لعلاقتنا مع أمريكا تحديدا تلك الدولة التي لم يوثق تاريخها إلا في نهاية القرن التاسع عشر مع إنشاء كراسي البحث المختصة وكذلك الأقسام في الجامعات، وهذا في الحقيقة أسهم في انشغال الأمة الأميركية للبحث عن هوية تستطيع من خلالها ردم الفارق الذي يحدثه النمو والتطور السياسي والاقتصادي في حياة الشعب الأميركي.

التحولات التي اسهمت في تغيير العالم خلال العقود الماضية أصبحت متسارعة أكثر من أي وقت مضى، فالعولمة التي بدأ العالم يشعر بها خلال الثلاثة عقود الأخيرة من القرن العشرين لم تكن تعني الاتصال الثقافي بين شعوب الأرض كما روجت لذلك المفاهيم الأيديولوجية لدينا واتهمت العولمة كجزء من مؤامرة وليست امتداداً للتطور البشري.

فبعد ما يقارب عقدين من القرن الحادي والعشرين اكتشفنا أن التواصل بين شعوب الأرض لم يكن سوى اداة من ادوات العولمة، فقد قادت العولمة فكرة التواصل عبر تطورها التاريخي البشري من النقل الشفهي المحدود التأثير والذي يتطلب تفاعلاً بيولوجياً بين الناقل والمتلقي الى ثورة أدت الى تدمير الجغرافيا بفارق الزمن، فلم تعد الساعة تساوي ذات الأرقام والتأثيرات كما كانت في الماضي حيث تجاوز العالم بسرعة هائلة الفكرة المحصورة بالاتصال إلى فكرة التفاعل البشري الذي تفوق على مخترعات أدت إلى كسر حاجز الصوت فيزيائياً.

حتى العام 1915م لم يكن الوعي القومي الأميركي قد تشكل بطريقة تاريخية وفق بناء علمي متراكم وقد قال الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة الاميركية (وودرو ويسلون) في ذات العام 1915م " خلقت هذه الأمة ما لم يوجد قبل ابداً... وعياً قومياً" وهذا أيضاً ارتبط فكرياً بكتابة التاريخ الأميركي كما ذكرت والذي لم يبدأ على وجهه الصحيح إلا في العشرين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر كما أشار (صموئيل هنتنغتون) في كتاب له يناقش فيه التحديات التي تواجه الهوية الأميركية.

بعد هذه السنوات من العلاقات الأميركية الخليجية وتحديداً السعودية يطرح سؤال مهم هل نحن نفهم أميركا أو لنقل هل لدينا القدرة على فهم أميركا..؟ هذه أسئلة تتمتع بمرادفات كبيرة ولكنها في النهاية تؤدي الى مفهوم واحد حول فهم أميركا، الفارق السياسي بين أميركا ودول الخليج فارق فكري، وإذا كانت أميركا التي كتب تاريخها قبل قرن ونصف من الزمان تقريباً تدرك عنا كل ذلك الكم الهائل من المعلومات الثقافية والفكرية والسياسية والتاريخية والاقتصادية...الخ فماذا بقي لنا- هل نتفهم أميركا نحن بذات الصورة.؟.

فهم أميركا بحد ذاته مسألة علمية وفكرية وليست سياسية حتى وإن أتى من يقول إنهم يملكون القوة السياسية والاقتصادية وغيرها من المؤثرات التي تجعلهم يتحكمون في كثير من معطيات هذا العالم، صحيح هذا الكلام ولكن السؤال يقول هل كل هذه المعطيات تستطيع أن تمنعنا أن نركز في فهم هذه الأمة بشكل علمي وبحث فكري دقيق..؟ يستحيل ذلك...! ففهمنا لأميركا يمكننا من التعامل معها ليس وفق مفهوم الندية السياسية او الاقتصادية أو العسكرية ولكن وفق منهجية تجعلنا قادرين على الإدراك التاريخي والتنبؤ حول هذه الأميركا.

على سبيل المثال في كل فترة انتخابية تتشكل مفاهيمنا حول الانتخابات وفق انطباعات نجمعها من خلال الإعلام الأميركي بالدرجة الأولى ثم وفق حساباتنا الخاصة وتمنياتنا المرتبطة بمتطلباتنا التي نصنعها بعيداً عن فهمنا الدقيق للواقع الذي تتحرك فيه هذه الأمة الأميركية التي مازالت قوية ومتحكمة في العالم.

لقد استطاعت أميركا وغيرها من الدول الغربية وتحديداً بريطانيا أن تقرأ تاريخنا منذ آلاف السنين بكل دقة حيث خرجت من ذلك التراكم التاريخي بفهم دقيق لكل مفاصل حياتنا، بينما عجزنا بكل هذا التاريخ وبكل مسارات الحضارة التي مرت بنا ان ننشئ ولو قسماً واحداً في جامعاتنا عن أميركا وأوروبا او حتى نسمح لمهتم في السياسة أن ينشئ منتدى او مركزاً للتفكير يركز على فهم أميركا أو بريطانيا أو إسرائيل أوغيرها سياسيا واقتصاديا..الخ، فكل مافعلناه اننا قضينا الوقت ندرس تاريخ أميركا الغرب كسرد قصصي لا اكثر كما كنا ومازلنا ندرس تاريخنا.

لقد أثبت التاريخ أن الضعف مقرون بالأحلام والأماني للضعفاء حيث تعجز العقول حتى عن تصديقها من حجم مبالغتها كما حدث مع ايديولوجيات زمن الصحوة التي بشرت بسقوط أميركا فسقط عوضاً عن ذلك خمس دول عربية بدلاً عنها، مهما كان موقفنا الثقافي وفق لما نراه اليوم وليس ما نتمناه فأميركا دولة قوية ولديها مصالح في منطقتنا ويجب أن نعمل على فهمها عبر قضاء وقت طويل لتكون جزءاً من مسارنا الفكري في جامعاتنا وإعلامنا ومنتدياتنا بعيداً عن التمني والادعاء أن المستقبل ينبئ عن سقوط أميركا التي لم نفهم كشعوب حتى كيف أنتخب رئيسها ترامب، أخيرا: المستقبل الذي نتحدث عنه ليس لدينا ضمانات اننا سنصل اليه.