وليد أبي مرشد 

 حتى بين المشككين في نظرية المفكرين والفلاسفة «المتنورين» بأن العالم يتجه نحو الأفضل، ويزداد حضارة مع السنين، لم يكن أحد يتوقع أن ينتكس مسار التطور الحضاري لعالمنا بالطريقة التي شهدناها عام 2016.

عقود طويلة قضيناها نهلل للعولمة، لنواجه عام 2016 بالقوقعة.. أي بعالم غربي ينغلق على نفسه بعد أن كان الرائد في انفتاحه على الآخرين، والسبّاق في تبشيره بالديمقراطية والحرية والمساواة.
الرئيس الأميركي، باراك أوباما، برر هذه النكسة بالتأكيد على أن مسار التاريخ ليس، بالضرورة، مستقيمًا.
المعلق السياسي الأميركي، توماس فريدمان، ذهب إلى حد القول إن العالم لم يعد كرويًا، بل أصبح مسطحًا.
كل هذه التعليقات جاءت رد فعل على انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، رغم كل ما يمثله من شعبوية ديماغوغية كانت حتى الأمس القريب غريبة حتى على آذان الأميركيين.
من الإجحاف الاستهانة بإنجاز من استطاع، بجهده الشخصي، أن يصبح أثرى أثرياء العالم، ورئيس أعظم دول العالم. وإذا كانت وصوليته هي الدافع الأول والأخير لرغبته في الجلوس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، فمن الصعب فصل هذا الإنجاز عن مناخ عام 2016 السياسي.. ودونالد ترامب كان بارعًا في العزف على وتره في كل اجتماعاته الانتخابية.
مع ذلك، لا تعتبر ظاهرة ترامب أميركية بقدر ما هي عالمية. وهذه الظاهرة التي يمكن تسميتها بحالة «الانعزال» الغربي عن شجون العالم الثالث ومشكلاته، برزت بوضوح بعد أن تخطت أعباء العالم الثالث ومتاعبه حدوده الجغرافية والسياسية معًا، وأخذت تطرق أبواب العالم الأول بأكثر من وجه واحد، عرقي وطائفي، إنما بدافع هاجس واحد - هاجس «الإرهاب الدولي».
ردة فعل الغرب الانعزالية حيال العالم الثالث بدأت عمليًا في أوروبا التي أقفلت معظم دولها الحدود في وجه موجات النزوح البشري من سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان (باستثناء ألمانيا المعقدة حتى الآن من ماضيها النازي). فرغم الطابع الإنساني لهذا النزوح، صوره الإعلام الأوروبي على أنه غزو بشري واسع من العالم الثالث من شأنه الإخلال بتقاليد المجتمعات الغربية، وربما سلمها الأهلي، فلم يكن مستغربًا أن يسجل المد الانعزالي الأوروبي، عام 2016، أبرز انتصاراته بانسحاب بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، رغم كلفته الاقتصادية والمالية.
وعليه، ومهما تنوعت مبررات الناخب الأميركي في اختياره دونالد ترامب رئيسًا لبلاده، يصعب إغفال بصمات العالم الثالث على خلفية قراره السياسي، وربما كان من حسن حظ دونالد ترامب - ومساوئ الصدف في آن واحد - أن يتضافر خطران «عالم ثالثيان» (بمفهوم الشارع الأميركي) في إيصاله إلى سدة الرئاسة الأميركية:
- أميركيًا، «خطر» تزايد الهجرة غير الشرعية «للهسبانيك» والمكسيكيين بصورة خاصة، أي للجماعات اللاتينية الأصول، بحيث باتت أعدادهم تهدد بذوبان السمة الإثنية الأنغلو - ساكسونية للمجتمع الأميركي، وربما إنهاء سيطرة «الواسب» (الأنغلو - ساكسون البيض البروتستانت) على المؤسسة الأميركية الرسمية.
- دوليًا، «خطر» الإرهاب الآتي من العالم الثالث أيضًا، والمتوائم مع «الإسلاموفوبيا» في الذهن الغربي المحافظ (وفي هذا السياق، ساهمت العمليات الإرهابية التي نفذها (الداعشيون) داخل الأراضي الأميركية وخارجها، في مسعى ترامب للضرب على وتر هذه المخاوف).
لو جاز إدراج فوز ترامب بالرئاسة الأميركية قي خانة عنوان عريض، لصح اعتبار الفائز بكرسي البيت الأبيض العالم الثالث وهواجسه، والخاسر الديمقراطية الأميركية ونظام المجمعات الانتخابية. وقد لا يكون من المبالغة في شيء القول إن تأييد الشارع الأميركي لطروحات ترامب العرقية والطائفية لا يشكل انتصارًا لمؤسسة «الواسب» البيضاء بقدر ما يعكس تخوفًا مبطنًا من تحوّل ميزان الأرجحية الديموغرافية في الولايات المتحدة لصالح «الهسبانك» و«اللاتينو»، على حساب «الأنغلو - ساكسون». ولكن إذا ما قورنت نسبة المواليد المنخفضة لدى العائلات «البيضاء» بالنسبة المرتفعة لدى العائلات «السمراء» و«السوداء»، يجوز الاستنتاج بأن المؤسسة الأميركية «البيضاء» تخوض، رغم انتصار دونالد ترامب، معركة خاسرة على المدى الطويل.. فهل دخلنا عام 2016 - وبمساهمة انفعالية من العالم الأول - قرن العالم الثالث؟