خليل علي حيدر 

من بين دول وأمم كثيرة قد تهددها حاليًا «الاتجاهات الشعبوية»، كما تسمى اليوم بعض التوجهات الأوروبية والأمريكية والدولية، نحن الوحيدون الذين لا نشعر بمثل هذا التهديد ولا تكترث بمخاطره.. وذلك لسببين! الأول، أن أوضاعنا العامة «من التردي والسوء بحيث لم يعد يهددها أي شيء».. كما يرى الكثيرون.
والثاني، أننا عشنا في ظل الأنظمة الشعبوية والشعاراتية والوعود البراقة جيلاً بعد جيل، مما سد طبلة آذاننا وأقفل قلوبنا وعقولنا إزاء أية وعود جديدة.. شعبوية أو تعبوية!
أستاذ النظرية السياسية وتاريخ الأفكار في جامعة «برينستون» الأمريكية «يانفيرنر موللر» نشر مؤخرًا كتابًا حول الشعبوية What Is Populism، يرى فيه موللر «muller» أن الشعبوية «مذهب في السياسة يعتقد أصحابه أن نخبًا منحرفة فاسدة وطفيلية، تتصدى على الدوام لشعب متجانس وواحد وطاهر أخلاقيًا». وأن هناك «أمريكيا حقيقيًا» و«فرنسيًا أصيلاً» و«مجريًا نقيًا».. وهكذا.
ويرى الشعبويون أنهم وحدهم يمثلون «الشعب الحق» و«إرادة الجماهير»، وكل من عداهم فاقد لمشروعية التمثيل، وهكذا فهم رواد «المدرسة الحصرية» في التمثيل السياسي.
ويرى «موللر» أن الشعبويين «لا يبالون أبدًا بمشاركة المواطنين وانخراطهم في الحياة السياسية.. والشعبوي لا يقر بالمصلحة العامة إلا للأمة الأصلية، وهو لا يهتم بتمثيل إرادة عامة تقودها مصالح جزئية كثيرة أو متعددة، ويفضل عليها فكرة تمثيل أو تجسيد رمزي لـ «الشعب الحقيقي»، الذي يمتنع عن المساءلة والتشكيك، وهو يفضل، بكلمة موجزة، «روح الشعب» على «الإرادة العامة». وهذا هو السبب في تحفظ الشعبويين على البرلمان وعن تمثيلها التعددي حكمًا».
شعبوية العالم الثالث التي عشناها في العالمين العربي والإسلامي أوسع من هذا وأخطر. فالزعامات الوطنية والنخب الفكرية والجماعات الأيديولوجية حاولت مرارًا تجاوز مطالب وتوجهات الجمهور إلى ما تراه هذه الزعامات والنخب أهم لها وأشد ضرورة للناس وللشعب. وأعطت الناس مختلف الوعود صعبة التحقيق كي ترسخ سلطانها، وعندما فشلت في تحقيق هذه الوعود وظهرت للناس عيوب وثغرات النظام، وجدت هذه الأنظمة والنخب المشجب وطوق النجاة في «مؤامرات الاستعمار» والمخططات التآمرية»، التي تحاول دائما «إفشال النهضة» و«تحطيم المكاسب الوطنية».. وغير ذلك.
لقد تم عمليًا في أماكن كثيرة تحطيم «الربيع العربي»، وإغراقه في بحر من الدمار والنار والخراب. غير أن البلدان المتقدمة في أوروبا وأمريكا مهددة كذلك بنوع خاص، أو أنواع، من الأنظمة والزعامات الشعبوية، ويرى الكاتب «إميل أمين» أن أوضاع العالم السياسية يمكن تلخيصها بـ «ديمقراطيات مخطوفة وليبراليات مأزومة». ويقول شارحًا إن «الديمقراطية الغربية ذاتها اليوم معرضة للاختطاف من قبل المرشحين الذين تفرضهم أموال المتبرعين وتسوقهم الإعلانات للناخبين، وهؤلاء التزامهم بالمبادئ الليبرالية سطحي في أحسن الأحوال، ولهذا يستغلوا مبادئ المجتمع المنفتح لحشد تأييد شعبي، بالضبط كما فعل هتلر وموسوليني في ثلاثينيات القرن الماضي، ولا يوجد شيء في النظام الديمقراطي يمكنه أن يطمئن فشل تلك الجهود بشكل دائم».
وعندما انهار الاتحاد السوفييتي، وتفكك الحلم الاشتراكي بالغ الغرب فيما يبدو في توقعاته الليبرالية، والديمقراطية التي ستعم الدنيا. وذهب المؤرخ الأمريكي - الياباني «فرانسيس فوكاياما» إلى حد اعتبار أن التاريخ قد وصل إلى نهايته. غير أن الأستاذ أمين، كالكثير من الكتاب العرب، «يتشفى» بإلقاء اللوم على القيم الليبرالية التي سادت الدعوة إليها منذ ذلك التاريخ، أي ما بعد 1991. ويرى ضرورة مراجعة «أخطاء الليبراليين الذين أسرفوا في الحديث عن مبادئها واتجاهاتها، ونسوا أو تناسوا هويات الأمم، وروح الشعوب».
ويقول: «الترويج لليبرالية يتجاوز المؤسسات الديمقراطية الرسمية، ويعتمد على التزام واسع وعميق بالقيم الأساسية للمجتمعات الليبرالية، وفي مقدمتها التسامح والمواطنة والإخاء والعدالة، وهي معايير لا يمكن فرضها بالطائرات من دون طيار».
ولكن الأستاذ الفاضل يدعو للأسف إلى توزيع الكعك لأناس يطالبون بالخبز. وقد حاولنا طوال القرن العشرين وفي «الربيع العربي» بناء «ديمقراطية ليبرالية غربية» أو ما يقترب من مداخلها، وقد فشلنا! إلا أننا بدلاً من دراسة أسباب الإخفاق، تراجع فكرنا السياسي إلى تبني مواقف غامضة من عملية التغيير الذي يضمن الحد الأدنى من تحديث مجتمعاتنا.
فالهند مثلاً تسبح في بحر من المشاكل والمعاناة، والبلدان العربية رغم ما تعاني تتفوق على الهند في بعض الجوانب، غير أن استمرار الديمقراطية الدستورية الهندية منذ استقلالها، وعدم اندفاع نخبتها خلف الأفكار الراديكالية والوعود الشعبوية وإلغاء الديمقراطية «التي تخدم الأثرياء وحدهم»، كما آمن الكثيرون منا، أنقذ الهند من براثن التفكك والتراجع.
لا خلاف في أن «الشعبوية» ووعود الساسة والأحزاب، غربية كانت أو شرقية، أداة القادة للهيمنة على الجماهير، ولكن لابد لنا أن نفكر جيدًا في ما نريد وفي ما ينفعنا، فمرة أخرى نتذكر أن القانون لا يحمي المغفلين!