بعد معاناة طويلة مع المرض غيّب الموت المفكر البحريني والعربي د. محمد جابر الأنصاري، تاركاً إرثاً فكرياً وثقافياً مهماً، تمثّل في مجموعة كبيرة من الكتب الفكرية التي ناقشت إشكالات الواقع العربي المعقدة، وفي بعضها ما يشبه التوقع للمآلات التي انتهينا إليها اليوم عربياً.
في كلمة ألقاها الأنصاري عام 2009، في تكريم أقامته له، في البحرين، اللجنة الأهلية لتكريم رواد الفكر والإبداع، قال إن الأساس، بالنسبة له، التمسك بمنهجية التوجه الفكري لا حرفية النتائج التي توصل إليها في حد ذاتها، وهذا القول على دقته لا يحجب أهمية ما خلص إليه من نتائج تجد صدقية لها في مسار التحولات الاجتماعية – السياسية في عالمنا العربي اليوم، فحين نقد الأنصاري في مطلع تسعينيات القرن الماضي النزوع الرومانسي المهيمن على الخطابات القومية في نبذ الدولة الوطنية العربية، أو ما اصطلح على وصفها بالقطرية، رأى أن بناء الدولة الوطنية في كل بلدٍ عربي على أسس حديثة وصون وحدتها خطوة ضرورية سابقة ليدافع عنها باعتبارها منجزاً وحدوياً بامتياز في بيئة لم تعرف الدولة أصلاً.
بهذه الدعوة كان الأنصاري كمن يقرأ المستقبل ببصيرة. هذا ما تؤكده مظاهر انحلال بعض نماذج الدولة القطرية العربية اليوم وتفككها مجدداً إلى تكوينات تقليدية، على شكل عشائر وقبائل وطوائف وما إلى ذلك سابقة للدولة كمنجز حديث، فروابط الدين واللغة والثقافة والحضارة على أهميتها لا تكفي، برأيه، لإقامة البنيان السياسي المؤسساتي للكيان الواحد.
يرى الأنصاري أن مشروع النهوض الحضاري العربي المنشود إما أن يكون شاملاً أو لا يكون، فلا يمكن أن ننجز إصلاحاً تربوياً دون أن يكون هناك إصلاح اقتصادي وتنموي، وهذا الأخير غير ممكن بدون إصلاح سياسي قائم على مبادئ الديمقراطية، وهذه الأخيرة، في منظور الأنصاري، ليست مجرد صندوق اقتراع تتجاذبه عصبيات الطوائف والقبائل والعساكر على النحو الذي نراه في مخرجات الانتخابات في العديد من البلدان العربية، وإنما هي منظومة متكاملة تشمل أوجه الحياة المختلفة.
في كتابه «اكتشاف الذات ونقدها» دعا الأنصاري إلى ثقافة قائمة على الأصول لا على الجزئيات والهوامش، مسجلاً مآخذه على مثقفي وأدباء الموجات الجديدة الذين ينقلون عن المنقول الذي هو بدوره منقول عن منقول، دون أن يعودوا إلى الأصول، فالعبرة هي في هضم الأصول وإعادة استيعابها، لا في الجري وراء المنقول والعابر والطارئ. وعندما ترجم العرب في مطلع عصرهم الحديث ديكارت، وشيئاً من كانط، وهيغل، وعادوا إلى ابن سينا، وابن خلدون خرج من بينهم محمد عبده، وشبلي شميل، ولطفي السيد، وطه حسين، وميخائيل نعيمة، من رواد التفكير الذي مجّد العقل ونبذ الخزعبلات والأوهام.
التعليقات