الحكم للقارئ… آخر التصريحات الصادرة عن مسؤول كبير في طهران، وهو المتحدث باسم مكتب المرشد علي خامنئي، علي رضا بناهيان، الذي قال يوم أمس: "إن هدف الشعب الإيراني هو تحرير شعوب العالم من العبودية، وسنقوم بذلك". وأضاف: "اليوم علم الحرية بيد خامنئي فقط، ومن لم يقم بدعم ذلك، فهو عدو للحرية!"
هذا تصريح من داخل مكتب المرشد الأعلى ربما يدل على حجم الغربة التي تعاني منها طهران في هذه المرحلة، التي انتهت جولتها الأولى بخسارة عاصمتين عربيتين من أصل أربع كانت تفتخر بالسيطرة عليهما بشكل كامل، وهما بيروت ودمشق. صحيح أن الانقلاب الجيوسياسي في سوريا أكبر وأكثر حسماً ووضوحاً من الحاصل في لبنان، لكن انهيار ذراع إيران في لبنان في أقل من شهرين من القتال مع إسرائيل يشكل مقدمة موضوعية لمسلسل انهيارات لاحقة سوف تتوالى في الأشهر القليلة المقبلة، لا سيما داخل البيئة الحاضنة طائفياً لـ"حزب الله".
الكارثة كبيرة على إيران في لبنان أيضاً، مع انهيار آخر عناصر "المشروعية" المنتزعة بالقوة والترغيب والترهيب من الشركاء السياسيين في لبنان. مشروعية السلاح التي فرضت فرضاً سقطت إلى غير رجعة. انتهت مرحلة فرض السلاح غير الشرعي وإلصاق وظيفة المقاومة بها. وانتهت الصفقات فوق الطاولة وتحتها بين مجموعة قوى يتشكل منها الطاقم الحاكم و"حزب الله" إلى درجة أنه ما عاد بالإمكان إحصاء القوى والجهات والأصوات التي نقلت البندقية من كتف إلى آخر. تصوروا أن الجنرال ميشال عون، الذي تبوأ منصب الرئاسة بين 2016 و2022 بفضل "حزب الله"، خرج قبل يومين على شاشة محطة التلفزيون التي تتبع له ليعلن أن على الحزب المذكور أن يسلم سلاحه للشرعية اللبنانية، وأنه لا يمكن أن تكون هناك شرعيتان في بلد واحد.
هذا تجسيد لظاهرة القفز من المركب الغارق. والظاهرة هذه ليست غريبة عن الطواقم السياسية التي تعاقبت على حكم لبنان منذ أن ولد الكيان اللبناني بحدوده الحالية. كثيرون قبل عون قفزوا من المركب وكثيرون بعده سيقفزون، على اعتبار أن الزمن تغير بشكل دراماتيكي، مع انهيار "قصور" الأوهام التي بناها الحزب، وفوق الحزب القيادة الإيرانية الحالية التي تشاهد بأم العين التفكك الصاروخي لمحور "وحدة الساحات" واحتمال أن تصير إيران نفسها ساحة صراع خطير في المدى المنظور.
سقطت أسوار القلعة الإيرانية، مع سقوط "حزب الله"، و"حماس"، وبشار الأسد، وتواري قادة فصائل "الحشد الشعبي" في العراق، وتعرض ماكينة جماعة "الحوثي" لضربات مركزة من الولايات المتحدة، بريطانيا وإسرائيل، إلى حد أنه بات من الممكن توقع انقلاب في موازين القوى على الأرض في اليمن في غضون ثلاثة أشهر على أبعد تقدير.
نحن إذاً نتحدث عن انقلاب في المنطقة يقابله خطاب غريب من القيادة الإيرانية شبيه بالتصريح الوارد في مطلع المقال، أو من قبيل مواقف أطلقها المرشد علي خامنئي عن الخروج من سوريا، أو دعوته إلى "استمرار جبهة الصمود ضد العدو في اليمن ولبنان". بمعنى أن طهران ترفض أن تنظر بواقعية إلى المشهد الإقليمي، وترفض أيضاً أن تتخلى عن مشروعها التوسعي في المنطقة العربية. ويبدو أن رهان إيران يتركز مرة جديدة على عامل الوقت، من أجل إحداث قلاقل واضطرابات في دول الجوار العربي لتعويم سيطرتها الإقليمية التي تقوم على نظرية دوائر النفوذ في الإقليم المحيط بها، من غزوة لبنان إلى سوريا والعراق وصولاً إلى اليمن.
لكن موازين القوى الجديدة بدأت تكشف عن نفسها في كل المنطقة، وخصوصاً بعد الانهيار المخيف في كل من سوريا ولبنان. طبعاً في سوريا الضربة أكثر وضوحاً نظراً لتاريخ أسود قام على التورط بالدماء. أما في لبنان، فالتنوع الطائفي خفف من وطأة السقوط من دون أن يلغي مفاعيله الواقعية على الأرض، وترك في مكان ما مرارة كبيرة داخل البيئة المخدوعة، هذا إذا لم ننس النفور الشديد الذي تبديه البيئات اللبنانية الأخرى تجاه كل ما يمت بصلة إلى المشروع الإيراني في المنطقة بأدبياته وشعاراته التي بدأت تقارن بمرحلة الناصرية زمن النكسة وأحمد سعيد!
إن الدول والأنظمة العاقلة هي التي تجري مراجعات نقدية لخياراتها ونتائج أدائها. أما المواظبة على اعتماد المقاربات عينها، وتوسل الخطاب القديم وسيلة للعودة إلى المنطقة، فمآلهما تكرار الكارثة، إنما هذه المرة في الداخل نفسه.
التعليقات