عبدالرحمن مرشود 

هيكلة البناء الأخلاقي للفرد مرتبطة بالدرجة الأولى مع ما يكرس مجتمعه فيه احترامه (نظرياً وتطبيقياً) وليس ما يتغنى به في مناسبات لا صلة لها بواقعه اليومي

"الشر يعم والخير يخص"، هكذا كان يعنوِن بعض المعلمين قراره بتعميم العقوبة على الفصل بجريرة خطأ طالب أو طالبين أو حتى مجرد الاشتباه بوقوع ذلك الخطأ. كان رفع هذا الشعار حينها كافياً لحسم الأمر وإنهاء الجدل حول شرعية تلك الممارسة!
تعرضت كغيري من طلبة جيلنا لهذا النوع من الظلم، وقرع السؤال لمّا يزل في ذهني حول حكمة هذا الشعار وعوامل نشأته في ثقافتنا التعليمية. ما أنا متأكد منه هو أن الخطورة الأخلاقية لرفع هذا الشعار تفوق خطورة الممارسات التي كانت تجري تحت ظلّه. فتكراره كتشريع (واقعي) على مسامع الناشئة وتبريره لما تبصره أعينهم من ظلم كفيلان بأن يفرّخا فئات من المستهينين بقيمة العدل، المسوغين لاستهداف الأبرياء بذريعة الوصول إلى الخصوم. وهو ما تفعله الأنظمة القمعية والميليشيات الإرهابية على السواء. الهدف المصلحي لاستهداف البريء بجريرة المذنب هو الضغط من أجل تجنيد البريء واستعماله كأداة لضرب الخصم تحت ضغط اليأس والخوف. هكذا دون اكتراث للقيم الإنسانية والمرجعيات الأخلاقية.
من المؤسف أن توفر مدارسنا حاضنة ثقافية لممارسة بهذه الخطورة. "كل واحد يتكلم عن نفسه"، هي العبارة التي كانت تواجه كل فرد منا حاول ذات يوم أن ينصر زميلا له أو سعى لإنصافه في قضية ما. كان استعمال هذه العبارة يقطع تلك المحاولات، بل ويدينها وكثيراً ما كان ينتهي الأمر باعتذار المتدخل وتراجعه عن موقفه. وغالباً ما يحدث ذلك تحت ضغط الإحراج والخوف. هكذا كان يعلم الناشئة أن الانتصار للذات له الأولوية على الانتصار للقيم. هكذا كانوا يُربون على أن الأنانية هي سمة الإنسان الحصيف. لعل لهذا الشعار الذي أدى تكراره المتواصل على أذهاننا دوره الفعّال في تكريس الثقافة السلبية المنخلعة عن مسؤولية التحيز للقيم والمبادئ.
"الحركات هذي ما هي علينا"، بهذه العبارة وشبيهاتها كان يواجه المعلم كل سلوك يستفزه. ولكن المؤسف أن إعلان المعلم المستمر عن كونه "الخبير بتلك التصرفات" يحول الأمر إلى مغالبة طرفين ينتميان إلى إطار الوعي نفسه. حيث تختفي ميزة المعلم كحامل لقيمة معرفية وأخلاقية يود من تلامذته اكتسابها. وتحل مكانها ميزة الشخص الذي يبزهم (صياعة)، ولكن داخل مضمار التفكير المألوف لديهم. لهذا خطورته على رسم المثل في وجدان الناشئ، إذ يصبح للتفوق معنى آخر غير ذلك الذي يُنتظر استيعابه من المنشأة التعليمية التي يرتادها. معنى يحفّزه على الدوران في دولابه المألوف وحرمانه من النجاة أو الارتقاء.
هذه ثلاثة نماذج لأيقونات لفظية علمتُ أنها ما زالت شائعة في مدارسنا. كما أنها ما زالت تحظى بعشق المعلمين لتنغيمها بألسنتهم كل مرة. سعيا إلى السيطرة على تصرفات الطلبة دون التفات لأثر ذلك على تكوينهم، أو النظر إليهم بصفتهم بشراً تعلّق الآمال على نموهم العقلي والوجداني.
يساعد في تسرب آثار هذه الأيقونات اللفظية إلى أعماق الوعي لدى الناشئ سلطة المعلّم باعتباره قدوة جديرة بالمحاكاة، بالإضافة إلى دور التكرار المستمر في تسلل مقتضيات هذه العبارات إلى منظومة الناشئ دون إدراك أو إرادة.
من الممكن أن ينتصب اعتراض يهوّن من خطورة الأمر بحجة أن قاموسنا الديني والثقافي يحمل الكثير من النصوص المعبرة عن قيم العدل وحب الحقيقة والتشجيع على المبادرة الإيجابية، وعليه فإن من المبالغة التخوّف من أثر هذه الأيقونات اللفظية المزعومة.
في الحقيقة، لا يبدو لي هذا اعتراضاً وجيهاً. ذلك لأنّ أعظم المؤثرات التي تصوغ عقول الناشئة وتشكّل منظومة القيم الخاصة بهم هي تلك التي يتحد فيها المثال بالواقع وتتآلف فيها قوة الشعار مع فاعلية التطبيق.
فالدماغ في طور النمو يستطيع النظر إلى أي ممارسة لا تتزامن مع شعارات ثقافية مؤيدة له كجنوح عن القيم السوية لا أكثر. كما بإمكانه النظر إلى أي نصوص بعيدة عن التطبيق مهما كانت روعتها أو ارتباطها بما هو مقدس كمجرّد مثل تخصّ عالماً آخراً غير الذي يعيشه. فهيكلة البناء الأخلاقي للفرد مرتبطة بالدرجة الأولى مع ما يكرّس مجتمعه فيه احترامه (نظرياً وتطبيقياً)، وليس ما يتغنّى به في مناسبات لا صلة لها بواقعه اليومي الذي يشهده ويعايشه.
من المهم ألا ينصرف اهتمام المعلم إلى شراء هدوء لحظته الحاضرة مقابل تقوّض معنى رسالته بالكامل. فليس الرهان على مقدار ضبط المعلم لمستوى الجلبة في فصله. بل الرهان على دوره في إنتاج بناة حضارة متكاملي الإنسانية لا مجرد وحدات عضوية لا ملامح لها داخل القطعان والحشود.