&طيب تيزيني

ثارت التوافقات الأخيرة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية التي أعلن عنها في أثناء زيارة الملك السعودي إلى مصر والتي تمت على مدى خمسة أيام مضت قبل أسبوع من الآن، حزمة كبيرة من الاقتراحات الحافزة المفتوحة في أوساط من الباحثين والمفكرين الاستراتيجيين وكذلك المثقفين والسياسيين، وكان ذلك أمراً طبيعياً في الوضعية العربية الراهنة، المتسمة بالتصدع والانهيار باتجاه حُطام غير مسبوق. وما يزيد الحال العربي قسوة ومأساوية أنه يفرض نفسه تحت قبضة الداخل والخارج، ومن شأن هذا أن يضع يدنا على أن نظاما إقليميا عربيا فقد القدرة على الفعل التاريخي المؤثر، ويتعرض في الوقت نفسه لاستهداف وتدخلات الآخرين.

ومع ذلك فإن الواقع العربي المشخص يظهر في أكثر من قطر عربي، ويتجلى في الأقطار العربية أو معظمها، بحيث لا يسمح الكل لنا أن نحول دون تشخيص الرؤية باتجاه كلي عربي شمولي. إذ علينا أن ننظر إلى مشاكل البلدان العربية بوصفها مشاكل تنتمي إلى وطن واحد، دون إغفال رؤية الخصوصيات النسبية لتلك المشاكل في أقطار الوطن العربي، بوصفها أجزاء لكل مترابط المصالح.

وثمة أربع مهمات تاريخية عظمى تقف أمام الوطن العربي، نرى أنها قد تكون الأهم في المهمات ذات الأولوية اليوم، وهي النهوض والتنمية والحداثة والتنوير، لكونها تكوّن هرماً تاريخياً مطلوباً لجميع العرب. وإذا كان الأمر كذلك فإن الفعل التاريخي المشخص لا ينحصر في بعد زمني قائم على التوالي بين هذه الأولويات، بل يفعل فعله كلاً وأجزاءً، وهذا ما يجعل العمل البنائي التاريخي ذا أبعاد وآفاق واحتمالات على الباحث السياسي والآخرين أن يأخذوه بالاعتبار العميق.

لقد جاء اللقاء السعودي المصري في وقته، أي في اللحظات ما قبل الانهيار الكبير، فالطائفية تغلغلت في أعماق الحياة العربية وبصيغ جديدة أكثر فتكاً وإجراماً وظهر هذا خصوصاً بصيغة مفعمة بالبارود. ولوحظ أن ذلك التغلغل الطائفي في العالم العربي لم يبق حالة نظرية بحتة، وإنما تحول -في حالات كثيرة- إلى صراعات سياسية ومسلحة أخذت طابع التغيير الديمغرافي، وفي ذلك كان، وما زال، لإيران، دور مكثف وآخذ في التوسع. أضف إلى ذلك عمليات التدمير في سوريا وفي اليمن والعراق وليبيا، ومحاولات الهيمنة لهذا المذهب الطائفي أو ذاك، إضافة إلى صراعات تتضح، مثلاً، في الزعم الخطير والوقح من قبل إيران بأن لها أربع عواصم عربية، هي دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء، وربما كذلك بلدان هذه العواصم نفسها.

إنه وضع مفعم بالعار لا يمكن قبوله بكل الاعتبارات، ومن ثم لم يعد الصمت ممكناً، وها هنا، أخذت طلائع وإرهاصات الموقف الجديد الذي تبلور في الخطوات الأخيرة، التي أخذتها السعودية ومصر، وظهر ذلك بوضوح في الاتفاقيات السبع عشرة، التي عقدت بينهما، هذا أولاً، أما الأمر الآخر فقد تجلى في القمة الإسلامية، في تركيا، التي طرحت فيها مسائل تتصل بصد خطر الظلامية، والتنوير، والإصلاح السياسي، والتنمية الاقتصادية، وغيرها.

لقد اتضح من حوارات وقرارات الأيام الخمسة من زيارة الملك سلمان إلى مصر، ومن القمة الإسلامية في إسطنبول، وما قد يمكن اعتباره «قرار الحسم» باتجاه الفعل التاريخي الجديد المتوجب على البلدان المعنية، أن ذلك هو المطلوب اليوم وليس غداً في إنجاز مشروع الخلاص الاستثنائي بأهدافه الطموحة: الاتجاه المفتوح بين الأطراف المعنية، وذلك عبر إنجاز خطط تتصل بالتنمية الشاملة وبوضع المخططات الخاصة بتحديث هذه البلدان، إضافة إلى فتح أبواب التنوير، والتحديث.

أما الآلية العلمية التي تضبط ذلك الفعل التاريخي المركب فتنطلق من ثلاث خطوات كبرى حاسمة تبدأ بمراكز بحوث وطنية بكوادر علمية عالية الإمكانات، وبالتوجه إلى العلماء والخبراء في العالم العربي للمشاركة في هذه المهمة القومية، وبإعلان خطوات كبرى للتغيير والتطوير الثقافي والسياسي والاقتصادي. ولعل شعار هذه العملية المركبة الكبرى يكون: الآن وليس غداً، لأن الغد يأتي ومعه مشكلاته.