الحسين الزاوي
&
يُجمع الكثير من المتابعين للشؤون السياسية على مستوى الساحة الدولية، أن ما تم تداوله من معلومات في سياق ما أصبح يعرف بأوراق بنما، لا يخرج عن سياق اللعبة التقليدية التي دأبت الاستخبارات الأمريكية على توظيفها من أجل النيل من خصومها السياسيين ومنافسيها الاقتصاديين، حيث تساءلت الكثير من وسائل الإعلام عن سرّ غياب أسماء الساسة الأمريكيين المعروفين بنشاطاتهم الاقتصادية والمالية المشبوهة والمقدرة بمليارات الدولارات، عن تفاصيل هذه الفضيحة المزعومة. لا يتعلق الأمر في اعتقادنا بالتساؤل عن صحّة التساؤلات المرتبطة بتهم الفساد في العالم، لأن الممارسات المالية غير الشرعية ستظل جزءاً من الحركية الاقتصادية العامة التي تخضع إلى تشريعات وقوانين الدول، ومن الصعوبة بمكان تصور نسق اقتصادي طاهر وخالٍ من كل الشوائب التي يمكنها أن تعكّر صفو المنظومات الاقتصادية الدولية؛ ولكن المسألة ترتبط في اعتقادنا بالدوافع السياسية التي تقف وراء تسريب وثائق من الصعب التأكد من صحة ومصداقية الكثير منها، وعلاوة على ذلك، فإن صحة بعضها لا يمكن أن يكون سبباً كافياً من أجل الحكم على صحة ومصداقية مجموع الوثائق الأخرى.
هناك في زعمنا، رائحة غير معتادة تُشم من وراء دخان أوراق بنما، فقد تم وضع التبن داخل ركام الأوراق المتناثرة حتى ينتشر الحريق من أقصى غرب الكرة الأرضية إلى أقاصي شرقها، وعليه فإن ورود بعض أسماء الزعماء الغربيين، ومن بينهم رئيس الوزراء البريطاني كاميرون ضمن قائمة الشخصيات العالمية المتهمة بإقامة علاقة مع الشركات التي تبحث عما يسمى بالجنان الضريبية، لا يفنّد هذه الفرضية بقدر ما يضفي عليها مزيداً من المصداقية، لأن لندن وواشنطن اللتين تحتكران الجزء الأكبر من حركة رؤوس الأموال العالمية، ليستا في حاجة إلى من يبلغهما بمعلومات إضافية عن النشاطات الهامشية الأخرى، لأن مسارات الدائرة المالية ستواصل دورانها المعهود لتستقر مرة أخرى في وول ستريت أو في لندن.
ويحضرنا في سياق هذا التحليل ما سبق أن قاله المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي عن ثقافة صناعة الفضائح في الولايات المتحدة، حيث أشار في سياق قراءاته النقدية والسياسية، إلى أن السلطات الأمريكية غالباً ما تلجأ إلى افتعال فضائح صغيرة والترويج لها في سياق حملة إعلامية كبيرة يكون الهدف من ورائها إشغال الرأي العام وإرهاقه بالفضيحة الصغيرة، وعندما تتفجر الفضيحة الحقيقية الكبرى يكون الرأي العام قد استنفد كل طاقته وقواه في التركيز على الفضيحة السابقة، فتمر بذلك الفضيحة الضخمة مرور الكرام، بعيداً عن ضجيج وضوضاء وسائل الإعلام المتطفّلة.
ولا تقف مقاربة تشومسكي عند هذا الحد، بل تتخطاه إلى التساؤل عن مهنية واحترافية الكثير من وسائل الإعلام في الغرب، التي ترتدي في الغالب نظارات زجاجية من نوع خاص، ترى وتسجل من خلالها الفضائح في مناطق وجهات معينة وتعجز عن إبصار ما يحيط بها من حقائق وأسرار صادمة. وبالتالي فإنه وعندما صرّحت بعض الأوساط السياسية في أمريكا بعد تفجر فضيحة ووترغيت، بأن إسهام إحدى الجرائد الأمريكية في كشف خيوط هذه الفضيحة يدلّ على الحرية الكبيرة التي تتمتع بها وسائل الإعلام في الولايات المتحدة، رد تشومسكي على هذا الادعاء بقوله، إن ما حدث ليس دليلاً على وجود حرية التعبير والصحافة في أمريكا، بقدر ما هو ترجمة لصراع الكبار في ما بينهم، ومن ثمة فإن عملية إطاحة نيكسون جاءت كردة فعل على جرأته نتيجة محاولته المساس بأناس كانوا أكثر قوة وأشد بأساً منه.
كما أن تركيز الجزء الأكبر من الوثائق المسرّبة على الخصوم السياسيين للولايات المتحدة، ولاسيما على روسيا والصين، يثير الكثير من التساؤلات المهمة والأساسية، وبخاصة إذا وضعنا في الحسبان حرص الغرب على محاربة مجموعة البريكس، وسعيه إلى إجهاض كل محاولة تستهدف إخراج الاقتصاد العالمي من شرنقة الحصار الذي تضربه واشنطن ولندن على حركة رؤوس الأموال في العالم. وقد اعتبرت الصين هذه الأوراق جزءاً من الحملة الغربية الهادفة إلى ممارسة التضليل الإعلامي، وأكدت وسائل إعلام صينية أن هذه الوثائق موجهة أساساً نحو أهداف سياسية بعينها، تقع في مرمى النيران الغربية التي تسعى إلى تصفية حساباتها مع بعض الأطراف.
إن القوى الغربية الكبرى، سعت، وما زالت تسعى حتى هذه اللحظة، من «ويكيليكس» وصولاً إلى كراسات بنما الإلكترونية، إلى صناعة الفضائح وإلى تزييف الوقائع، حتى يتلبس الحق بالباطل وتضيع بوصلة القيم التي تجري التضحية بها في أسواق النخاسة والعبودية المعاصرة.