&عبدالله السويجي

قد يتم القضاء على تنظيم «داعش» عسكرياً، ويبقى فكرياً ومدنياً، يحوم في رؤوس الملايين، والحومان هذا مرده إلى التفكير الباطني غير المعلن، الذي يدور في رؤوس الملايين، ويؤرقهم ويعوق اتخاذهم أي موقف تجاه تلك التنظيمات التي تطبقه بالسيف والدبابة، وهذا القلق مرفق بتساؤلات تبعث على الحيرة، بشأن حقيقة منبع هذا الفكر وأصوليته، إن كان حقاً ناتجاً عن العقيدة الإسلامية وفقهها، أم أنه ناتج عن اجتهادات معظمها بعيد عن المعتقد الأصلي، وإنما غالى المجتهدون في تطرفهم الفكري، فتبنوا أقصى حدوده، أم أن في الأمر ما يبعث على التأمل الشجاع والاعتراف الواعي بجذور هذا الفكر؟

حين تتحدث مع رجل سلفي بحذر شديد، ولا ينشأ ودٌ بينك وبينه، يواجهك بمقولة إنه يسير على هدي السلف الصالح وسنة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، ويسأل بقوة من أخذ الكتاب بيمينه: هل أنت ضد السلف الصالح وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فتحاول أن تجيبه بأن الله أمر بالوسطية فيهب في وجهك قائلاً إن حدود الله لا تعرف الوسطية، ويعزز قوله بآيات وأحاديث، ولا يعرف أن السلف الصالح اجتهدوا واختلفوا في تطبيق بعض الحدود، كإقامة الحد على السارق بقطع يده، فإذا كررها تقطع يده الأخرى، وهكذا، متناسين أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هدد التجار بوقف تطبيق حد السرقة، في عام المجاعة، رأفة بالناس، وتطبيقاً لمبدأ المسؤولية المجتمعية في الإسلام. ورغم ذلك نجد تنظيم «داعش» المتطرف التكفيري، يقطع يد السارق الفقير، الذي يعيش في قرية مدمرة بيوتها، ومحروقة مزارعها، غير عابئ بالظروف التي أدت إلى السرقة.

هذه الحيثيات يثور حولها نقاش، ومثال السرقة أبسط من أبسطها. وفي الواقع، لا يريدون الاعتراف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان متفهماً للنفس البشرية والغرائز الإنسانية ومحللاً للظواهر الاجتماعية، ولهذا فإن تدخلاته الوسطية كانت درساً للمشرعين والقضاة للنظر في الملابسات الاجتماعية، لتخفيف تطبيق الحد. فالشريعة لا تأخذ بمنهج الحساب ومنطقه، فالسرقة لها ظروف وعلاقة الرجل بالمرأة لها ظروف أيضاً، ولابد من تعزيز الحكمة ونشرها.

كل هذا الكلام نورده للدخول في حدثٍ، مرت عليه وسائل الإعلام مروراً إجرائياً، فلم يعقب أحد على توصياته، ولم يناقشوه، لأنه ربما من وجهة نظر العديد من الكتاب، يصطدم بقوى لا يجوز التصادم معها، أو بدول لا نود تعكير أجواء الصفاء معها، وهنا تتداخل السياسة بالحق وبالدين لتطمس الجهود الحقيقية المبذولة لمواجهة الفكر المتطرف التكفيري، الذي يتبع منهجاً عنيفاً، لا وسطية فيه لتطبيق الشريعة.

الحدث المهم كان تنظيم اتحاد الكتاب العرب في أبوظبي في التاسع عشر من الشهر الماضي، لمؤتمر سموه «مؤتمر اليوم الواحد لمناهضة الفكر الداعشي»، ولم أتمكن من حضور مداولاته وجلساته، ولكنني حصلت على توصياته، وكانت جريئة ووضعت النقاط فوق الحروف. وقد توقفت عند أكثر من توصية:

* قالت التوصية الأولى: تفكيك المُسَلَّمات التي يقوم عليها هذا الفكر، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والموقف من غير المسلمين ومسؤولية الإنسان المسلم عن تدين الآخرين وإيمانهم وفكرهم وعقائدهم.

وهذه التوصية حساسة إلى درجة سكوت الخطاب الثقافي والديني عنها منذ زمن، ولم يتطرق إليها أحد منذ اندلاع (الربيع العربي)، كون جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقرها في السعودية، وتتمتع بنفوذ يعادل نفوذ الحكومة، فللجماعة صلاحيات واسعة في جميع المجالات، ولكن ما يثلج الصدر أن الحكومة السعودية نفسها طالبت الجماعة بالتقليل من تدخلها في الشأن العام. وهنا بات بالإمكان الوقوف إلى جانب الحكومة السعودية، ومساندتها في موقفها الداعي إلى تقليص صلاحيات الجماعة، والجماعات الشبيهة المنتشرة في العديد من الدول العربية والإسلامية. وهذا من شأنه أن يشكل خطوة جريئة وتاريخية لمحاربة التطرف وأحكامه، وعدم التدخل في شؤون الناس بشكل اعتباطي.

• التوصية الثانية تقول: لفت الانتباه بقوة لتطوير مناهج التعليم التي تمثل في الواقع أحد أهم منابع التكوين المتطرف.

ويبدو أن من صاغ هذه التوصية يدرك تماماً دور مناهج التعليم في تفريخ أجيال متطرفة، ولهذا أورد كلمة (بقوة)، إدراكاً منه لحجم الأثر الكبير للمدارس الدينية المنتشرة في المنطقة، والتي تقوم بأدوار قوية في نشر التطرف والابتعاد عن الوسطية، ولنا أمثلة كثيرة، فمدارس تعليم القرآن لا تعلم القرآن فقط، وإنما تطلق التفسيرات التي تنحو منحى التطرف في التفسير، ويصل الأمر إلى تعويد الأطفال، على سبيل المثال، على مص رؤوس أصابعهم بعد كل لقمة طعام يتناولونها، استناداً إلى السنة، وهذا مثال بسيط جداً. أمّا المثال الأكبر، فيكمن في «طالبان»، الذي انطلق من مدارس دينية تقوم بحشو عقول التلاميذ الصغار والكبار بتعليمات وأوامر، وعليهم اتباعها، وتلاميذ تلك المدارس يقيمون فيها، ويخضعون لعملية توجيهية مستمرة على مدار اليوم، حتى يصل الأمر بعدد كبير من التلاميذ إلى استعدادهم للقيام بعمليات انتحارية ضد مساجد مسلمين آخرين، والكنائس كون أتباعها «كفاراً».

وفي الواقع، هناك أكثر من توصية تتعلق بالتعليم مثل: مراجعة مناهج التعليم، وتنقيتها من الفكر الذي يتأسس عليه فكر هذه الجماعات، مثل تقديم تاريخ المسلمين على أنه تاريخ جهاد وحروب، وعدم التركيز على الجوانب الحضارية.

ويتبع هذه التوصية بتوصية ذات صلة، تقول: إصلاح خطب الجمعة التي تقدم دائماً صورة عن تاريخ المسلمين وشخصياتهم الأساسية والكبرى، على أنه كله تاريخ حروب وجهاد. وتوصية أخرى تقول: مناقشة النظام التعليمي ككل، مثال: فكرة ازدواج التعليم الديني والتعليم المدني، والعمل على الفصل بين الفقه والعقيدة، وبيان مفهوم كل منهما، والتركيز على الخطوط الفاصلة بينهما، ومن ثم الفصل بين «المقدس» و«غير المقدس».

وفي الواقع، فإن التوصية التي تتعلق بتقديم تاريخ المسلمين على أنه تاريخ جهاد وحروب، وعدم التركيز على الجوانب الحضارية، تحتاج إلى دراسة، فالمناهج تركز على الجوانب الحضارية، وأثر العلماء المسلمين في الحضارة العالمية، لكن قوة مفعول الجهاد أقوى من تقديم عالم رياضيات أو فلك، ففي الأولى سحر الشهادة في سبيل الله، وفي الثانية سحر العالم، والخيال في الأولى أقوى، فهو يداعب النفس بقوة، وهذا مبحث معقد وله محاذيره.

جميل أن تعلو أصوات الكُتَّاب والأدباء الذين صمتوا طويلاً، وتركوا المجال لأنصاف رجال الدين ليحتلوا الشاشات التلفزيونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمؤسسات المدنية والتعليمية، لأنهم غرقوا في الكتابة في موضوعات معقدة لا يفهمها الإنسان العادي، والأحداث التي تعصف بالوطن العربي أثبتت ضعف تأثيرهم. والحديث مفتوح على مصاريعه.