راجح الخوري&

&&أثار الإعلان عن «رؤية السعودية 2030» عاصفة من الإعجاب والتفاؤل والأمل غمرت السعوديين والخليجيين أيضًا، واستحوذت على مواكبة تفصيلية واهتمام عميق في الأوساط الاقتصادية والمالية في العالم، فمنذ بداية الأسبوع يكاد الاهتمام الدولي بتفاصيلها ونتائجها المتوقعة، أن يوازي الاهتمام في داخل المملكة، حيث يعرف الجميع أنهم باتوا يقفون على عتبة «السعودية الجديدة».

«رؤية السعودية 2030» ليست برنامجًا اقتصاديا فذًا سيجعل أكبر بلد مصدّر للنفط في العالم مستغنيًا عن النفط بعد عشر سنوات فحسب، بل هي خطة بناء علمية عميقة وشاملة، تتناول الاقتصاد والتنمية وإعادة بناء قواعد الإنتاج وتنويع مصادر الدخل وترسيخ علاقة السلطة بالمجتمع على أسس علنية وممنهجة، تفضي إلى عقد اجتماعي جديد يتناسب مع دور المملكة العربية السعودية كمرجع عربي وإقليمي ودولي.

في مقابلته مع محطة «العربية» قال ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان إن والده، خادم الحرمين الشريفين، قام بعمل قوي جدًا عندما هزّ رأس الهرم في السلطة التنفيذية، وتعامل بشكل سريع في بداية توليه الحكم، عندما أعاد تشكيل مجلس الوزراء، وأعاد أيضًا هيكلة رأس الهرم للحكومة من خلال إنشاء المجلسين وعبر إلغاء الكثير من المجالس، وهذا ما ساعد على أن ينخرط رأس الهرم في العمل بشكل فعال وسريع لتحقيق ما نريده اليوم.

الرؤية السعودية 2030 أعدها «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية» برئاسة الأمير محمد بن سلمان الذي عمل، مع مجموعة كبيرة من الخبراء المحليين والدوليين ورجال الاختصاص لمدة عام كامل، على دراسة كل تفصيل في هذه الخطة، وتحدثت الأنباء عن ورشة اقتصادية تنموية أشبعت درسًا وتمحيصًا لأنها ستبدأ تاريخًا جديدًا في المملكة التي لها بصمتها العميقة على مجرى الاقتصاد العالمي.

شهادة صندوق النقد الدولي في الخطة كانت واضحة: «إن الاقتصاد السعودي حقق خلال عام تعديلات كبيرة لم تكن تخطر في بال المراقبين، وإن الخطة طموحة ورؤيوية وبعيدة المدى وتنفيذها يمثل تحديًا حقيقيًا وستساهم في التنمية الاقتصادية في السعودية وتنعكس إيجابًا على المنطقة»، وخصوصًا أن عشرات من ورش العمل نظمتها الاجتماعات التحضيرية، التي أشرف عليها الأمير محمد بن سلمان مع المسؤولين ومديري الشركات السعوديين والاستشاريين الأجانب، وضعت القواعد العلمية والبرامج التفصيلية لإعادة هيكلة الاقتصاد ووقف الاعتماد على النفط.

كان مثيرًا للإعجاب كيف قارب الأمير محمد موضوع النفط في حديثه إلى «العربية» عندما سأله الزميل تركي الدخيل أنتم لن تعتدوا على مقدس عندما تطرحون جزءًا من أرامكو للاكتتاب، ليرد بالقول: تقديس النفط؟ هذه مشكلة كبيرة، الملك عبد العزيز والرجال الذين عملوا معه في أنحاء المملكة أسسوا دولة ولم يكن هناك نفط وتحدوا الاستعمار البريطاني، مشكلة أن يصبح النفط وكأنه دستورنا، هذا أمر خطير نحن لدينا حال إدمان على النفط وهذا أمر خطير لأنه عطّل تنمية قطاعات إنتاجية كثيرة.

الاستثمار في النفط عبر تسييل خمسة في المائة من أرامكو خطة أحدثت وتحدث الآن زلزالاً في الوسط الاقتصادي العالمي، فبحسب ما تحدث عنه الأمير محمد سيكون للسعودية صندوق سيادي يدير استثمارات حجمها تريليونا دولار، وهذا يعني أن خريطة صناديق الاستثمارات السيادية في العالم ستتغير برمتها خلال الفترة المقبلة مع التغييرات الاقتصادية التي ستشهدها المملكة، ذلك أن الصندوق السيادي السعودي سوف يتربع على عرش الصناديق السيادية في العالم ويكون أكبر صندوق في الكون، وما تهدف إليه «رؤية السعودية 2030» أن يوفّر الصندوق للسعوديين أكبر بئر تضخ من العائدات ما لا ينضب أو تتهاوى أسعاره كما يحصل للنفط.

لهذا تتعامل «الإيكونوميست» المجلة البريطانية المحترمة مع هذه الرؤية باهتمام كبير فتقول: إن هذه الخطة التي أقرّتها الحكومة السعودية هي أكبر حدث تشهده المملكة منذ اكتشاف النفط عام 1938، لافتة إلى أهمية الصندوق السيادي الذي سيجعل من الاستثمارات وليس النفط مصدر إيرادات الحكومة، كذلك أبدت صحيفة «الفايننشيال تايمز» المرموقة اهتمامًا عميقًا بالخطة التي تشكّل أكبر اكتتاب في تاريخ الكرة الأرضية، وهو ما اعتبرته صحيفة «التلغراف» أكبر حدث اقتصادي واجتماعي في تاريخ السعودية.

الذين استمعوا إلى حديث الأمير محمد سواء مع موقع «بلومبيرغ» أو «العربية»، توقفوا مليًا أمام مؤشرات عميقة الدلالة، ليس عبر تناوله موضوع النفط وتركيزه اللافت والمهم على الشفافية ومحاربة الفساد فحسب، بل في مدى طموحه لخلق السعودية الجديدة سنة 2030، فقد بدا كمن يقطع على نفسه وعدًا يتلاقى بالتأكيد مع التوق والحماسة لدى كل شاب وشابة في السعودية: «نعم ستعاد هيكلة قطاعات وزارة المالية وبينها إعداد الميزانية خلال سنتين، وأن جميع مشاريع البنى التحتية مستمرة ولن تتوقف... وأن طموحنا سيبتلع مشاكل الإسكان والبطالة وغيرهما... طموحنا أن نكوّن اقتصادًا أكبر من الذي نحن فيه اليوم، أن نخلق بيئة جذابة ورائعة في وطننا وأن نكون فخورين به وأن يكون وطننا جزءًا مساهمًا في تنمية العالم وحراكه على كل المستويات»!

من الواضح أن طموح الأمير محمد سيبتلع كل المشاكل التي تعترض قيام السعودية الجديدة.. لنقل إنه على غرار بيسمارك يصر على دفع المملكة إلى الأمام. لقد كان مثيرًا للدهشة عندما كشف عن وجود مكتب جديد أنشأه، رغم مهماته الكثيرة كوزير للدفاع، وهو «مكتب إدارة المشاريع» [project management office] الذي سيتولى الإشراف بمهنية عالية جدًا عن طريق المراقبة الأمينة والحوكمة الدقيقة عبر «مجلس الشؤون الاقتصادية».

«بلومبيرغ» رصد في كلام الأمير رؤية تطمح إلى قيام الشرق الأوسط الجديد عندما راح الأمير محمد يتحدث عن فرضية نسختين محتملتين للمرء: إما أن يُوجد شركة أبل على طريقة ستيف جوبز أو أن يكون موظفًا ناجحًا في أبل، وهو أقرب إلى أن يصنع شركة عملاقة ووطنًا رائدًا من أن يكون موظفًا أو مسؤولاً ناجحًا، وهذا كلام عميق يعكس حوافز شخصية بيسماركية.

دعونا نقرأ بهدوء حديثه كوزير للدفاع عن المسألة العسكرية: هل يعقل أن تكون السعودية ثالث دولة في العالم في الإنفاق العسكري والعشرين في التقويم، وليس لدينا صناعات عسكرية؟ إذن هناك خلل... وهل يعقل عندما أدخل إلى قاعدة عسكرية في السعودية أجد الأرض مبلّطة بالرخام والجدران مزخرفة والتشطيب خمسة نجوم، بينما عندما أدخل إلى قاعدة أميركية أجد القساطل في السقف والأرض بلا سجاد أو رخام فقط إسمنت عملي؟

ليس من داع لأي جواب، لأن تصفيق السعوديين لهذا الكلام يعلو ويعلو.

&

&

&