&صالح زياد& &

الجماعات الإسلامية ترفض الفصل بين الديني والسياسي، لأنها ترفض التساوي مع غيرها من التيارات السياسية الوطنية، مُخيِّلةً لأتباعها أنها الإسلام والإسلام هي

&ربما لا يشبه الحرج الذي أوقعت حركة النهضة الإسلامية التونسية فيه سائر الحركات الإسلامية، وفي طليعتها التنظيم العام للإخوان المسلمين، أي حرج آخر يمكن أن يثيره نقد أو مجابهة لها. ولا يقف سبب ذلك على صدوره عن أحد أبرز الأحزاب الإسلامية السياسية، أي عن وجهة ضمن التيار نفسه، وهذا في حد ذاته يضفي على النقد نفاذاً وتأثيراً، بل يتعداه إلى المحتوى بما يتضمنه من حجج وما يبرهن عليه من وقائع وما يكتسبه من صدقية شعبية وما يعلنه من موقف الحسم والقطيعة والانقلاب على أبرز المقولات التي التفت حولها الجماعات الإسلامية. وهي مقولات أصبحت حجاباً لتلك الجماعات لا يمنعها –فحسب- من رؤية واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة، والنظام العالمي، بل يمنعها من رؤية الإسلام الذي اختصرته في مقولات زعمائها الحركيين، وألبست به سعيها إلى السلطة ورغبتها في احتكارها ومبررها إلى إقصاء غيرها، حتى أجّجت العنف والإرهاب بنفسها أو كانت سبباً فيه بشكل مباشر وغير مباشر.

موقف حركة النهضة الذي يتضمن النقد للجماعات الإسلامية، والانقلاب عليها، تبلور في ما أقرته في مؤتمرها العاشر (20-22 مايو 2016) من فصل بين السياسي والديني. وهو نتيجة تتمخض عن استدلال فقهي وفكري وواقعي؛ ولذلك فإنه يتنزل منزلة التصحيح لمسار حركة النهضة الإيديولوجي، وضمن ذلك بالضرورة مسار حركات الإسلام السياسي بمختلف أسمائها. وهنا مكمن الأهمية في موقف النهضة، ومصدر الحرج الذي تسبِّبه للحركات الإسلامية قاطبة. لأن لازم ذلك الموقف هو تخطئة النهضة لموقف غيرها من الحركات الإسلامية، والطعن في معقوليتها وفي شرعيتها. بل أبعد من ذلك، تحميلها وزر العنف والدمار والإرهاب الذي يجري على الأبرياء، باسم الإسلام، في مناطق وجودها وفي أنحاء العالم، إلى الدرجة التي غدت فيها سبباً لظاهرة "رهاب الإسلام" المنتشرة في العالم، وعلة لكثير من التحوطات الأمنية وقصور التنمية واستشراء القمع والاستبداد في المنطقة العربية.

والمؤكَّد أن قطاعاً عريضاً من عامة المسلمين وخاصتهم، وليس الجماعات التي تميز نفسها باسم "الإسلامية" وحدها، سيفهم الفصل بين السياسي والديني، بأنه عدوان على الدين، وانتزاع له من قلوب المسلمين وسلوكهم، وسيرى في ذلك الكفر الصريح؛ لأنه يرى العلمانية، المصطلح السيئ السمعة الذي كان التصدي لـ"دعاته" أحد أقوى الأسباب التي تعلِّل بها الجماعات الإسلامية قيامها وتأليف أتباعها. وهذا يعني أن موقف النهضة إشكالي وصدامي مع فهم أصبح واسعاً في المجتمعات الإسلامية؛ وفي ذلك مكمن أعمق لاتساع دائرة الأهمية المنعقدة على قرار النهضة، بما يجاوز إحراجها للجماعات الإسلامية.

إن الثقل الذي يمثله أبرز زعماء النهضة، راشد الغنوشي، وعبدالفتاح مورو، وحمادي الجبالي، ليس سياسياً فحسب، بل فكري ديني و–خصوصاً- تنويري. وليس الحديث عن فصل السياسي عن الديني جديداً لديهم، وبالأخص لدى راشد الغنوشي. الجديد هو تبني الحركة لهذا الموقف، والجديد في موقفها هذا هو الكشف عن أن الفصل بين السياسي والديني مقصود به فصل السياسي عن الحركات السياسية المحدثة التي تنتسب إلى الإسلام وتدعي احتكار تمثيله بوصفها المجتمعات المعاصرة، وضمنها مجتمعات المسلمين، بالجاهلية، ووصفها حكومات الدول العربية والمسلمة وشركاءها في الوطن من الأحزاب السياسية الأخرى باللادينية. فليس للفصل بين السياسي والديني ولا للوصل بينهما معنى أصلاً في الإسلام؛ لأنه لا يوجد كهنوت في الإسلام، أي لا توجد طبقة مؤسسية فيه لرجال الدين، كما حدث حين هيمنت الكنيسة على الدولة في أوروبا فترة طويلة، وكان في هذه الهيمنة علة العلمانية وضرورتها، بحيث لا يمكن فهم مصطلحها إلا بتصور الوضع نفسه، وضع هيمنة رجال الدين على الدولة الذي كان الانعتاق منه إيذاناً بولادة مفهوم الدولة الحديثة عالمياً. وكأن الحركات السياسية الدينية في عالم المسلمين اليوم توحي بتكرار ذاكرة الحكومات الدينية الكهنوتية في أوروبا، وليس الأحزاب المسيحية الحديثة في أوروبا التي يبدو حزب النهضة في موقفه الجديد أقرب إليها.

كان خطاب الغنوشي في افتتاح مؤتمر النهضة، إعلاناً للخروج بالنهضة من عباءة الإسلام السياسي "إلى حزب ديموقراطي وطني متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر"، وتعبيراً عن "الحرص على النأي بالدين عن المعارك السياسية"، ودعوة إلى "التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي، لتكون مجمعة لا مفرقة"، وتبرئة للإسلام من "تيارات التشدد والعنف التي تنسب نفسها للإسلام، والإسلام منها براء".

وإذا كانت نقطة الافتراق بين النهضة وجماعات التشدد واضحة في رفض هذه الجماعات الأخيرة للديموقراطية وصندوق الاقتراع الحر، فإن الافتراق عن الجماعات الإسلامية التي تجتمع مع النهضة في المطالبة بالاحتكام إلى صندوق الاقتراع الحر مثل جماعة الإخوان في مصر، لا يجلوه إلا موقف النهضة الأخير بإعلانها فصل السياسي عن الديني. فالجماعات الإسلامية ترفض هذا الفصل لأنها ترفض التساوي مع غيرها من التيارات السياسية الوطنية، مُخيِّلةً لأتباعها أنها الإسلام والإسلام هي، وأن النقد الموجَّه إليها هو نقد للدين ورغبة في التفلت من أحكامه. ومن ثم لا يغدو الاقتراع من وجهتها بين بشر وكفاءات وبرامج سياسية بل بين الإسلام وغيره. وهنا خطيئتها السياسية والدينية؛ فما دام أن إخفاق حزب إسلامي في إدارة الدولة ممكن ولا يمكن نسبة هذا الإخفاق إلى الإسلام، فإن نجاحه أيضاً كذلك.

هكذا تبرز أهمية موقف النهضة الجديد في تداعيه إلى الحد من استخدام الدين واحتكاره سياسياً، وإلى تقديم الوطني على الأممي، وقطع الطريق المؤدي إلى الإرهاب وإلى الاستبداد. ولكن حركة النهضة ستبقى في مرمى سؤال اتهامي من وجهتين متضادتين تسألانها: ماذا بقي لك من التدين؟! إحدى الوجهتين تسألها على سبيل النفي والإنكار، أي نفي تدين النهضة وإنكار ذلك عليها، والأخرى على سبيل التقرير؛ فموقف النهضة الجديد –من هذه الوجهة- سيبقيها –أيضاً- في دائرة الحزب الديني ما دام زعماؤها شيوخاً وعلماء دين.