برحيل الأمير بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود، يفقد الأدبُ العربيُّ رمزاً ثقافياً، وتفقد المملكة العربية السعودية «مهندسَ الكلمة» وأحدَ أبرز مبدعيها، بعد رحلةٍ إبداعيةٍ امتدَّت لأكثرَ من خمسة عقود.

صحيح أنَّ الإبداع لا يموتُ، إلا أنَّ رحيلَ البدر سيترك فراغاً كبيراً في سماء القصيدة الفريدة، والأغاني المتجددة، والفنون البصرية. كانَ رحمه الله استثنائياً في كلّ ما يقدم، وجادّاً ومخلصاً تجاه الكتابة التي دفعته للتفرغ لها منذ وقت مبكر، فكانت قصائدُه وأعمالُه الفنيةُ سيرتَه الذاتية.

لقد أخذ البدرُ القصيدةَ إلى فضاءات جديدة، ونقلها إلى مستوى آخرَ من الإبداع، وأسَّسَ مدرسةً شعريةً، ونجحَ باقتدار في خلقِ صورٍ شعريةٍ فريدةٍ بكلماتنا المحكية، ليثبت أنَّه «من هالأرض» المتفرد بمنتجه المازج بين عراقة تراثه وأدواته الحديثة، التي لن تمر مرور الكرام على القوافي والبحور والصور والتراكيب.

طوَّع البدرُ قلمَه دون الوطن، بقصائدَ عدة جاوزت «هام السحب»، وكان حاضراً في الموعد بشعره في كل المناسبات الوطنية. حفظ السعوديون له «الله البادي، حدثينا، عز الوطن»، ورسمَ بالكلمات ملاحمَ شعريةً وطنيةً لن تُنسى كـ«فارس التوحيد، وطن الشموس، أئمة وملوك»، إضافة إلى ما قدَّم لجمهوره طيلةَ خمسةِ عقود، من قصائدَ شعرية، ظلَّت حيَّةً ومتداولةً في الشارع وفي يوميات الناس ومشاعرهم، عكست قدرتَه الفائقة على توظيف إرثِنا وثقافتِنا في نصوصه. وكانَ تكريمُ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - بمنحه وشاحَ الملك عبد العزيز، تعبيراً عن تقدير كلّ السعوديين لإسهاماته الشعرية الجليلة.

في الأيام الأولى لولادةِ وزارة الثقافة، عام 2018، لم يبخلِ البدرُ بوقتِه ولا بجهده لتقديم المشورة والمساهمة في دعم كلّ ما من شأنه أن يعزّزَ الثقافةَ بكافة قطاعاتها. لقد كانَ حضورُه الدائم في المناسبات الثقافية ودعمُه وتشجيعُه ملهماً لي ولزملائي، وكانت اقتراحاتُه مثريةً لرحلتنا الثقافية، كونه مبدعاً لن يتكرَّر، وخبيراً في الإدارة الثقافية منذ تسنّمه رئاسةَ الجمعية السعودية للثقافة والفنون عام 1973.

وفي أمسيةٍ راسخةٍ في ذاكرتي، فتحت «اليونسكو» أبوابَها للشاعر الكبير في يوم الشعر العالمي عام 2019 ليتحف الحضورَ بروائعه، وأتذكّر جيداً أنَّه عرّف نفسه بـ«مواطن جئت من المملكة العربية السعودية، هوايتي الرسم، وعملي كتابة الشعر». لقد أدركَ منذ وقتٍ مبكرٍ أهميةَ التَّفرغِ الكامل كشاعر، واستطاع خلالَ أكثر من خمسة عقود أن يكسبَ رهانَه على موهبته.

وعبر حنجرةِ «صوت الأرض»، الفنان السعودي الراحل طلال مداح، كتبَ «مهندس الكلمة» رائعةَ «عطني المحبة» في نهاية ستينات القرن الماضي. وبعد ما يزيد على 56 عاماً، رحلَ مُحمّلاً بأكثرَ مما طلب: ملايين من المحبين، وحياةٌ أبديةٌ لإبداعاته، وأنهرٌ مُشرقةٌ بما كتب، امتد ضياؤها لينير ليالينا، وخُتمت بدموع منهمرة في يوم رحيله.

وبجانب زخم حضوره الشعري، كانت هناك حياة أخرى في مرسم الأمير الشاعر، حيث رسم القصائد على شكل لوحات فنية، وظل مفضلاً «الآفاق اللا نهائية والأبواب غير المتوقعة» فيها. لقد آمن منذ الوهلة الأولى بتشابه الشعر والرسم، وكان ذلك سمة ثابتة في لوحاته الرائعة التي مزج فيها الصحراء والبحر وأفاقهما المفتوحة.

شكّل البدر علامة فارقة في فضاء الإبداع الإنساني، باعتباره شاعراً حقيقياً ورساماً مبدعاً، يفتخر به السعوديون في كل مناسبة. نودع البدر جسداً، ولكن ستبقى روحه مُرافقةً للثقافة السعودية، ومُحفّزةً للشباب، ومُلهمةً للأجيال القادمة.

كانت له نظرة ثاقبة بتأسيس مؤسسة بدر بن عبد المحسن الحضارية، التي أرجو على القائمين عليها أن تستمرَّ في رفد الحراك الثقافي في البلاد، بما كان يطمح إليه مؤسسُها، وكجزء من الحفاظ على تراثنا وتكريماً لسيرة أحدِ أهم الأدباء الذين مرُّوا في تاريخنا، يسعدني أن يستحدثَ الزملاءُ في هيئة الأدب والنشر والترجمة مساراً خاصاً بالأمير بدر بن عبد المحسن في المختبر السعودي للنقد يُعنى بدراسة تجربته الشعرية وتوثيقها وتقديمها للأجيال القادمة.

رحم الله البدر وأسكنه فسيح جنّاته.

* وزير الثقافة السعودي