&&بكر عويضة&

أستكمل هنا ما بدأت بهذه الزاوية الأربعاء الماضي، بشأن ما أصاب المُعترين، وأغلب الناس من بني فلسطين، بتأثير أهوال الفُرْقة وتناحر الفرق الفلسطينية. عزز اهتمامي بالأمر أنني قرأت بعدد «الشرق الأوسط»، خبر رصد إيران سبعين مليون دولار، دعمًا سنويًا لحركة «الجهاد الإسلامي»، ثم رد الحركة الذي نُشر في اليوم التالي فنفى ولم ينف. الرد نفى حجم المبلغ، لكنه لم ينفِ حقيقة الدعم، من منطلق أنه «ليس تهمة». حسنًا، ها هي «الانتقائية» تطل من جديد. ما يشكل في خندق ما «تهمة» تبرر التساؤل، هو واجب يؤديه طرف ما تجاه مُستحقٍ له. غير أن انتقائية تحديد المواقف، ليس بوسعها نفي حقيقة أن بسطاء الفلسطينيين عانوا، ولا يزالون، جراء انقسام تنظيمات ترفع رايات قضيتهم بشعارات عدة، لكل منها ولاء أو براء، يخصها أكثر مما يخص فلسطين ذاتها، إذ فهي «وقف إسلامي»، وهي «جنوب سوريا الكبرى»، أو هي «قضية العرب الأولى»، والخلاصة أن الأرض يمكن أن تنتظر عشرات السنين، ما أهمية الزمن في أعمار الأمم؟

أما بنو إسرائيل، فيواصل قادتهم البناء على أرضية ما قرروا منذ زمن تيودور هيرتزل، منظّم مؤتمر بال (1897) الشهير. تنهض المستوطنات واحدة تلو أخرى، تبدو أحدثها أعلى من سابقتها، يقضم المستوطنون الجدد كل شبر أرض يقع في قبضتهم، يعلو جدار العزل ويرتفع أكثر، وفيما يستمر انقسام «الأخوة الأعداء»، تنعقد حلقات الدبكة فرحًا برفع علم فلسطين فوق مبنى الأمم المتحدة.

يعود بي درب الآلام إلى سنوات صباي، أفتح عينيَّ لأقرأ في صفحات أشهر احتلال غزة سنة 1956 قصة صلاح اللبابيدي، مدرس يقيم مع زوجته وطفليه بحي الرمال، استيقظ الجيران ذات صباح على عويل عوني (أربع سنوات) وصياح تحفة (سنتان) إذ هما غارقان في لجّة من دماء أبويهما. وكما الريح سرى الخبر بين ناس القطاع كله، فلم يبقَ بيت لم يغرق بالبكاء، والغضب. آنذاك، لم تكن هناك تنظيمات تدعي القتال ضد المحتل، بينما هي تتقاتل فيما بينها، لأجل مناصب وحصص وحقائب وأمجاد أشخاص، فقط كان الشعب في الميدان، هو يقود قادة مقاومة المحتل، وليس العكس. ما من شعب في الدنيا يرهن مصيره بأيدي غيره، أيًا كان شعار ذلك الغير أو كانت رايته. كلا، مستحيل، إنما يأتي من يرهن مستقبل ناس استودعوه أمانة حاضرهم، وائتمنوه على مستقبلهم، فيقرر باسمهم، ونيابة عنهم، أن مصلحتهم في الدعم الآتي من هنا، وليس من هناك. ثم تدور عجلة التحكم في مصائر الخَلق بأسلوب العصا والجزرة، وإذ تسقط أخلاق أي حكم في عمق بئر الفساد، يتبارى فريق إرهاب الناس مع فريق الإغواء، كلاهما ينافس الآخر لأجل إخضاع الكل كي يكون في طوع الفرد، وهو هنا أكثر من مجرد الشخص، هو تنظيم، حزب، حركة، أو قل إنه، باختصار، «الأخ الأكبر»، طاعته واجبة، ومعصيته تورد العاصي موارد الهلاك. حين يصبح هذا كله هو ناموس أي مجتمع، فما هو المُنتَظر؟

لكن الحديث هنا ليس عن «أي مجتمع»، بل هو عن مجتمع أراد ظالمون من بني إسرائيل، معادون للحق وطامسون للتاريخ، مسحَ وجود إنسان يعيش داخل كيان يخصه أرضًا وثقافةً وتراثًا، عن خريطة الدنيا، كأنما هو لم يكن قائمًا منذ حروب طوائف يهودا والسامرا، بل تناسى هؤلاء أن العهد القديم ذاته يوثق مواقف فلسطينيي تلك الأزمان، بما فيها قصة «دليلة المحتالة» التي تمكنت من شعر شمشون، فقضت على جبروته، والتي كانت من صبايا غزة ذاتها. لكن، ظلم بنيامين نتنياهو وحليفه الجديد أفيغدور ليبرمان، والذين سبقوهما والآتين بعدهما، هو ظلم مُتوقع من قِبل خصم يعرف بالضبط ما يريد، فيخطط لبلوغه ويعمل لأجله. أما الظلم غير المُتوقع، ولا المفهوم، ولا المقبول، فهو الواقع بأيدي الفلسطينيين ضد بعضهم بعضًا. بيد أن هذا الظلم واقع ممارس من قبل تأسيس حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، فهو «فيروس» ابتليت به تنظيمات الفلسطينيين، منذ شرعت أنظمة عربية في فتح فروع لها في سوق المقاومة، فإذا بحركة «فتح» حركات، والجبهة «جبهات»، ويوجب التوثيق تسجيل سبق هذا الفتح في تشظية الجسم الفلسطيني لصالح الأنظمة الثورية العربية تحديدًا، التي ورثتها «إيران الثورة الإسلامية». كم طويل هو درب الآلام الفلسطينية، وكذلك حديثه.

&

&