&عبدالحق عزوزي

قبيل أيام كنت أناقش مع الدكتور جمال سند السويدي، دوافع الإرهابيين الذين بدأوا يتفننون في أساليب التقتيل، ولعل أحداث «نيس» الفرنسية أقرب مثال على ذلك. فدعوى هؤلاء الهمجيين عدمية فوضوية لأنها تدعو إلى تحطيم الأوطان وإشاعة الخوف والتدمير، وهم يسعون لكي تجتاح الفوضى كل شيء، وأن يقضي العدم على كل حياة. ودعواهم دعوى عدمية فوضوية تهدم ولا تنشئ، تقوض ولا تبني، تخلع ولا ترفع، وهم لا يؤمنون البتة بأن كل عمل في ديننا مبني على الوسطية والسماحة، ولابد أن يترابط بغيره ويتواشج بالمجتمع ومع الإنسانية لإنشاء حضارة سامية سامقة.

طيب، فمن أي مراجع دينية يرتوون؟ ومن أي علم يبني هؤلاء أفكارهم؟ استشهدت مع الدكتور جمال بالعديد من الآيات القرآنية مع ذكر أسباب نزولها، فلم نجد ما يمكن أن يفسر ما حدث في «نيس» وما يقوم به الدواعش، فالمشكل لا يتعلق بالنصوص الشرعية ولا بالأطر المرجعية، ولكنه مرتبط بالجهل وبنوع القراءة التي تعطى لهذه النصوص. وإجمالًا يمكن أن نلخص ذلك مع كتاب «الغلو في الدين: المظاهر والأسباب» لأبو زيد الإدريسي في أربعة عناصر:

-القراءة السطحية للنصوص: في غير إدراك لمقاصدها وسياقها، ولا استحضار للمقدمات العلمية الضرورية التي تشترط قبل اقتحام عباب التعامل مع النص، كاستحضار أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني، وغير ذلك من العلوم التي تشترط لفهم النصوص القرآنية.

-حضور النقل وغياب الاستدلال: إذ يغلب على كتابات التوجه العنفي الإغراق في نقل نقول طويلة والإحالة على علماء مثل ابن تيمية وابن القيم والشاطبي، ولكن دون أخذ المسلك الحجاجي والمنهج الاستنباطي الذي يعتمده هؤلاء. إذ في الغالب ترد هذه النقول، وتورد الأقوال المتعارضة في فصول طويلة، ليأتي الترجيح في أسطر دون أن يعلم القارئ أو المتتبع لهذه الأدبيات الطريقة المنهجية التي سلكها هؤلاء في عملية الاستنباط والحجاج، فأحرى الترجيح.

-الغياب الكامل لعلمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة.

-الغياب الكلي لفقه الواقع.

فهؤلاء الجهلة الذين غابت وتغيب عنهم هذه المسلمات يستحلون الدماء، ويرتمون في تيارات أصولية سياسية بأخلاقيات السياسة وجعجعة التحزب وطنطنة الشعارات، لا يقومون إلا بالتحريف، ولا يقومون إلا بالتزييف وفي حمى التنافس ولهيب التسابق في الشر، تتكون جماعات استئصالية إرهابية وتتداخل خيوط وتتفاصل، وأصبحت كل الأغراض مركزة على الخلافة فظهرت السياسة على الدين، وتركز العمل الإسلامي في غالبيته على الحركة السياسية، ونسي هؤلاء وغيرهم أنهم بذلك يمكن أن يطفئوا شعلة الدين، وأن يخافتوا من روحه الفياضة، وأن يلغوا العمل العقلي والروحي لتجديد الفكر الإسلامي وجعله موافقاً للعصر مواكباً للظروف ومفيداً للبشرية.

وفي حديثنا عن القراءة السطحية للنصوص لصاحب الوهم البالغ في خياله، والذي هو من أضغاث الأحلام لا من رؤية البصيرة، استشهدت مع الدكتور جمال بالآية القرآنية الكريمة: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» )البقرة: 256)، فقد جاءت هذه الآية عقب آية الكرسي، التي أخبرت عن عظيم قدرته سبحانه، وكمال علمه، وتذكر كتب أسباب النزول وكتب التفسير بعضاً من الأخبار الواردة في سبب نزول هذه الآية، ولعل أهمها ما روي عن ابن عباس أنها نزلت في رجل من الأنصار، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك، وقد رواه الطبري.

ثم إن ابن كثير ذكر في «تفسيره» أن حكم الآية عامٌّ. وهو موافق لقاعدة العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وبالتالي فلا يصح إكراه أحد على الدخول في الإسلام. والآية الكريمة لم تنسخ قط، وهي تقرر وتؤكد قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدين، وهي قاعدة حرية الاعتقاد؛ إذ الأصل أن يختار الناس عقيدتهم بمحض إرادتهم، من غير إكراه مادي أو ضغط معنوي. ومن هنا، فلا يجوز بحال إكراه أحد على اعتناق هذا الدين... هذا هو ديننا الحنيف، وهذه هي السماحة التي بها تكونت أمصار وشعوب، أما تيار تسييس الدين فيجنح بالتطرف والعنف والإرهاب إلى التردي في العبارات الرنانة والشعارات البراقة والهتافات الجوفاء، دون أن يصاحب ذلك أي فهم صحيح للدين أو فهم علمي لسنة الله في تغيير الواقع، فيضلون ويضلون، ويزلون ويزلون، ويقوضون أسس الدين والحضارة، الأمر الذي انحدر إلى قتامة من مغلوط القول وعتامة من ملفوظ القول، والدين بريء منهم.