&إياد أبو شقرا

عاشت الولايات المتحدة خلال الأسبوع المنقضي أجواءً استثنائية مع اعتماد الملياردير اليميني المتطرف دونالد ترامب مرشحًا رسميًا للحزب الجمهوري في السباق إلى البيت الأبيض في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. أما في بريطانيا، حيث هزَّ التصويت لصالح الخروج من أسرة الاتحاد الأوروبي الوضع السياسي وأنهى رئاسة الزعيم المحافظ المعتدل ديفيد كاميرون للحكومة من دون أن يتعرض حزبه لأزمة داخلية، فإن العكس حصل مع حزب العمال؛ إذ ثار نواب الحزب على زعيمهم اليساري الراديكالي جيريمي كوربن، لكن الأخير سرعان ما واجه النواب مستقويًا بالحركيين والنقابات العمالية.

القاسم المشترك بين ترامب وكوربن أنهما يمثلان التطرُّف؛ الأول يمينًا والثاني يسارًا، كما يظهر أنهما في سبيل الوصول إلى السلطة على استعداد لفعل أي شيء مهما كان الثمن.
ترامب، الطارئ أصلاً على الحزب الجمهوري، والذي لم يسبق له أن انتخب لمنصب سياسي، خلق استقطابًا حادًا داخل الحزب، وعمل على تجاوز اعتراضات رموز المؤسسة الحزبية بركوب موجة تطرُّف تقارب العنصرية الفاقعة. وهو الآن بعدما فرض نفسه مرشحًا رسميًا للحزب يواصل هروبه إلى الأمام معتمدًا لغة «شعبوية» غريزية لا تليق بقادة دولة تعددية ومؤسساتية راقية كالولايات المتحدة.

في الجانب المقابل، لا يتصرف كوربن إطلاقًا كزعيم لـ«حزب سلطة» يتعذر عليه تطبيق برامجه السياسية إلا إذا فاز بالانتخابات، بل تراه يتحرك ويتكلم كناشط في حركة احتجاجية أو منظم مظاهرات واعتصامات، ثم إنه مع إدراكه الكامل فقدانه ثقة نواب الحزب - الذين يرون أن راديكاليته ستقضي على أي فرصة أمام حزب العمال لكسب أي انتخابات - ما زال يصر على البقاء في منصبه واستعداء القواعد الحزبية على النواب. وأكثر من هذا، يلقب كوربن معارضيه، في سياق تحريضه على النواب، بـ«زمرة توني بلير» (رئيس الوزراء الأسبق) ويرميهم بـ«اليمينية»، متحديًا إياهم بأنه سيقود الحزب في الانتخابات المقبلة عندما يحين موعدها.

كيف وصل رجلان بعيدان تمامًا عن مفهوم الديمقراطية العاقلة والمسؤولة، مثل ترامب وكوربن، إلى القمة؟

الأرجح أن الأزمة التي يمر بها الحزبان العريقان الأميركي والبريطاني اليوم أكبر من مجرد الابتلاء بقيادي مغامر أو دوغماتي أو حتى ديماغوجي. إنها أزمة معقَّدة تتعلق بنوعية النسيج الحزبي أو قاعدة المناصرين والناخبين، وكذلك آليات اتخاذ القرار. ومن معالم هذه الأزمة مسلك الهستيريا والانتحار الجماعي.. بفعل التلاشي التدريجي لصوت الاعتدال والتعقل. ولا شك أن جماعات وكتل ضغط في أميركا مثل جماعة «حفلة الشاي» اليمينية المتطرفة والتيارات الإنجيلية الراديكالية المحافظة - وفَّرت منذ فترة غير قصيرة - الأرضية الجاهزة لتقبُّل الطروحات العنصرية خلال الحملة التمهيدية للجمهوريين من ترامب وبن كارسون وغيرهما من المرشحين المتطرفين. والواضح، كما بدا من فعاليات المؤتمر الحزبي في كليفلاند أن الناخب الجمهوري المتحمس لشعارات ترامب وخطابياته لا يهمه أبدا كسب حيز الوسط، ولا يكترث بتحييد الخصم، لأنه أسير لتفكيره الضيق وتعصبه المصلحي والفئوي، الذي يبرر له التهجم والافتراء وشن حملات تجنٍ شخصي.

يسارًا، لا تختلف كثيرًا مشكلة حزب العمال البريطاني عن مشكلة ارتهان الجمهوريين الأميركيين أكثر فأكثر - بصورة انتحارية - لجماعات اليمين المتطرفين والتيارات الإنجيلية والمغالية في توجهها المحافظ؛ إذ يلوح وكأن مناصري كوربن نسوا - أو أنهم يتناسون عمدًا - عقودًا من «النفي» بعيدًا عن الحكم بين عامي 1979 و1997؛ بسبب رفض الناخب البريطاني تسلُّط اليسار المتطرِّف، ولا سيما جماعة «ميليتانت تندينسي» Militant Tendency الماركسية، على أجهزة الحزب والنقابات العمالية. ولكن مع هذا، بسبب الاختلال في أنظمة انتخاب زعيم الحزب أتيحت فرصة الفوز لكوربن بفضل أصوات الناشطين والحركيين والنقابات العمالية. واعتمادًا على هؤلاء يمضي كوربن قدمًا في طريقه مهددًا وحدة الحزب ومتجاهلاً حقائق الخريطة الانتخابية في البلاد.

إن ظاهرة التطرف السياسي تبرز، عادة، في ظروف ضاغطة. ومنها أنه حين يتعسَّر الحوار ويتعثر التعايش، وتهدد بلدًا ما أخطار خارجية، يهرب المواطن المثقل بالهواجس والأسئلة المعقدة إلى من يقدم له الوصفات السهلة. وكما تفيدنا التجارب ليس هناك ما هو أسهل من اختصار التعقيدات بـ«حلول» سريعة وراديكالية لا ترى في السياسة سوى لونين.. الأبيض والأسود. وعبر القرون الأخيرة ظهرت في الغرب عقائد راديكالية أفرزت ثقافات قومية وطبقية ودينية وإقليمية منذ مفصل الثورة الفرنسية، التي تبلور فيها الفكر الليبرالي، ثم جاء الرد عليه بالفكر المحافظ، ولاحقًا أطل البديل الاشتراكي - الشيوعي. ثم أدى تساقط الإمبراطوريات، التي هي بحكم أحجامها الضخمة متعددة الإثنيات، لظهور مفاهيم وولاءات قومية ووطنية أسهمت في صياغتها حقائق الجغرافيا وواقع الجوار.

القصد أنه منذ القرن العشرين، بل تحديدًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، هزمت القوميات العنصرية المتطرفة كحال النازية والفاشية، ولم يبقَ في العالم المتقدم - وتحديدًا في الغرب - أي منافس يعتد به لمفهوم الديمقراطية الغربية سوى الأنظمة الشيوعية بقيادة العملاقين الأحمرين.. الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية. وإذا استثنينا أوروبا الشرقية التي سقطت عمليًا بعد تلك الحرب ضمن دائرة نفوذ السوفيات، نرى أنه في باقي الدول الغربية سارت التجربة الديمقراطية بمستويات متفاوتة من السلاسة.. من قمة السلاسة والرقي والتداول الناعم للسلطة في دول اسكندنافيا وسويسرا، إلى السير المضطرب في دروب الديمقراطية كما حصل في دول عدة بجنوب أوروبا بعضها عانى الديكتاتورية طويلاً، مثل: إسبانيا، والبرتغال، واليونان.

مع هذا لم يختفِ التطرُّف.. لا يسارًا ولا يمينًا، بل ازداد قوة نتيجة عوامل مؤثرة، منها: الهجرة واللجوء، والإرهاب، والظروف الاقتصادية. وها هي اليوم بعض أحزاب اليمين المتطرف تحظى بثقل غير معهود في دول من هولندا والنمسا، كما تمكنت قوى اليسار الراديكالي من كسر احتكار الاشتراكيين المعتدلين كما هو حاصل الآن في اليونان وإسبانيا. وفي اتجاه ثالث، اشتد عود الأحزاب القومية - الانفصالية في بعض الدول، وأخذت تعزز حضورها عبر صناديق الاقتراع من دون الحاجة إلى العنف.
&

&